»نشرت فى : الأحد، 21 نوفمبر 2010»بواسطة : »ليست هناك تعليقات

الدين والعلم*

                                                     بول ديفيز **


من الواضح إذن ان كلا من الدين والعلم مؤسسان على الإيمان – اعني على الاعتقاد بوجود شيء خارج الكون ، مثل رب غير بيّن أو مجموعة من القوانين الفيزيائية غير المبررة ، وربما حتى لمجموعة ضخمة من الأكوان غير المرئية أيضا. لهذا السبب ، فكلا من الدين التوحيدي والعلم المتشدد فشلا في تقديم سردا كاملا للوجود المادي.
نحن نقول مرارا ان العلم هو الشكل الأكثر موثوقية لمعرفة العالَم لأنه يقوم على افتراضات قابلة للاختبار. لكن الدين ، على النقيض من ذلك ، يقوم على أساس الإيمان. مصطلح الشخص الشكاك يوضح بجلاء الفرق. ففي مجالات العلوم الشك الصحي هو ضرورة مهنية في حين أنه في الدين كان يعتبر الاعتقاد بدون وجود أدلة على أنه فضيلة.
المشكلة في هذا الفصل الدقيق يعود الى "تسلط غير متوافق " ، كما ستيفن جاي جولد وصف العلم والدين ، أن العلم له نظام اعتقاده الخاص اساسه الايمان. كل العلوم تستمر على افتراض أن الطبيعة منظمة بطريقة عقلانية وواضحة. أنت لا يمكن أن تكون عالِما إذا كنت تعتقد أن الكون هو خليط بلا معنى من المصادفات الصغيرة التي وضعت جنبا إلى جنب بشكل اعتباطي. عندما يرصد الفيزيائيون مستوى أعمق من البنية دون الذرية ،أو يوسع علماء الفلك نطاق ما تصل اليه اجهزتهم فانهم يتوقعون أن يواجههم نظام رياضي انيق ممتاز ، وحتى الآن فان هذا الايمان مبرر .
ان التعبير الأكثر تشذيبا لعقلانية الكون بشكل واضح يوجد في قوانين الفيزياء، القواعد الأساسية التي تدير الطبيعة. فقوانين الجاذبية والكهرومغناطيسية -القوانين التي تنظم العالم داخل الذرة وقوانين الحركة -- كل ما يتم التعبير عنه بعلاقات رياضية أنيقة. ولكن من أين تأتي من هذه القوانين؟ ولماذا لديها هذه الصورة التي تعمل بها ؟
عندما كنت طالبا ، قوانين الفيزياء كانت تعتبر محظورة تماما. مهمة العالِم - قيل لنا - هو اكتشاف القوانين وتطبيقها ، وليس الاستفسار عن  مصدرها. فتم التعامل مع القوانين على أنها "معطاة" - مطبوعة على الكون مثل علامة صانع في لحظة الولادة الكونية - وثابتة إلى الأبد. ولذلك لكي تكون عالِما ، يجب ان يكون في ايمانك ان الكون محكوم من قبل قوانين رياضية عالمية غير قابل للتغيير و موثوقة و مطلقة ذات أصل غير معين . انت يجب ان تعتقد  بأن هذه القوانين لن تفشل ، فلن نستيقظ غدا لنجد الحرارة تتدفق من البارد إلى الحار ، أوان سرعة الضوء تتغير كل ساعة.
على مر السنين في كثير من الأحيان سألت زملائي الفيزيائيين لماذا قوانين الفيزياء تكون على ما هي عليه. تتفاوت الأجوبة من " ليست مسألة علمية" إلى "لا احد يعرف." الرد المفضل هو "ليس هناك أي سبب أنها تكون هكذا – هي هكذا فقط". فكرة أن وجود القوانين بلا سببية هي مضادة للمعقول بعمق. ومع ذلك جوهر التفسير العلمي ذاته لبعض الظواهر أن العالَم منتظم منطقيا وأنه توجد أسباب ان تكون الاشياء كما هي. إذا تتبع أحد هذه الأسباب على طول الطريق وصولا الى أساس الحقيقة - قوانين الفيزياء - فقط ليجد تلك الاسباب ثم يتركها لنا ، فإنه يسخر من العلم.
هل يمكن ان يكون الصرح العظيم لنظام طبيعي ندركه في العالم من حولنا في نهاية المطاف راسخا في عبثية غير مبررة؟ إذا كان الأمر كذلك ، اذن الطبيعة ما هي الا قطعة ذكية بوحشية من الخداع : فاللامعنى والعبث يتنكر بطريقة أو بأخرى بنظام بارع وعقلاني.
على الرغم من أن العلماء منذ فترة طويلة لديهم ميل الى تجاهل مثل هذه الأسئلة المتعلقة بمصدر قوانين الفيزياء ، فان المزاج تحول الآن إلى حد كبير . والسبب الاول لذلك هو القبول المتزايد بظهور الحياة في الكون ، وبالتالي وجود مراقبين مثلنا يعتمدون بحساسية اكثر على شكل القوانين. فإذا كانت قوانين الفيزياء مجرد كيس قديم من القواعد فانه يكاد يكون من المؤكد ان الحياة غير موجودة.
والسبب الثاني المتعلق بمصدر قوانين الفيزياء الموجودة الآن في نطاق البحث العلمي- هو الإدراك بأن ما اعتبرناها قوانين مطلقة وعالمية لمدة طويلة قد لا تكون أساسية بالفعل ابدا ، ولكنها اقرب إلى القوانين المحلية، ويمكن أن تختلف من مكان إلى آخر على نطاق كوني ضخم. رؤية الخالق قد تكشف عن خليط واسع من الأكوان ولكل منها مجموعتها المميزة من النظام الداخلي. في هذه "الاكوان المتعددة multiverse "(1) الحياة سوف تنشأ فقط في تلك البقع بقوانين غير مؤذية للحياة bio-friendly ، لذا ليس غريبا أن نجد أنفسنا في كون معتدل  Goldilocks universe يكون فقط مناسب للحياة وقد اخترناه بوجودنا ذاته.
نظرية الاكوان المتعددة تحظى بشعبية متزايدة ، ولكنها لا توضح بشدة ان قوانين الفيزياء تبدو كمراوغة للقضية برمتها. يجب أن يكون هناك آلية مادية لخلق كل هذه الأكوان وإعطائها قوانينها.،وهذه العملية تتطلب قوانين خاصة بها ، أو قوانين فوقية، فمن أين أتت؟ فالمشكلة ببساطة تحولت من مستوى قوانين الكون إلى القوانين الفوقية للأكوان المتعددة.
من الواضح إذن ان كلا من الدين والعلم مؤسسان على الإيمان – اعني على الاعتقاد بوجود شيء خارج الكون ، مثل رب غير بيّن أو مجموعة من القوانين الفيزيائية غير المبررة ، وربما حتى لمجموعة ضخمة من الأكوان غير المرئية أيضا. لهذا السبب ، فكلا من الدين التوحيدي والعلم المتشدد فشلا في تقديم سردا كاملا للوجود المادي.
هذا الفشل المشترك أمر طبيعي ، لأن فكرة القانون الطبيعي ذاتها هي لاهوتية في المقام الأول الأمر الذي يجعل العديد من العلماء يرتبكون. اسحق نيوتن قدّم لأول مرة فكرة قوانين مطلقة وعالمية وكاملة وثابتة من العقيدة المسيحية بأن الله خلَقَ العالم ونظّمه بطريقة رشيدة. المسيحيون تصوروا الله كداعم للنظام الطبيعي من وراء الكون ، في حين أن علماء الفيزياء يفكرون في قوانينهم التي تقطن في عالَم متعال مجرد مكوّن من علاقات الرياضية المثالية.
ومثلما ان المسيحيين يدّعون أن العالّم يستند وجوده بشكل مطلق على الله ، في حين أن العكس ليس صحيحا ، لذلك الفيزيائيون يعلنون عدم التماثل المشابهة : الكون محكوم بقوانين أبدية (أو قوانين فوقية) ، ولكن القوانين هي تماما غير متأثرة بما يحدث في الكون.
ويبدو لي أن ليس هناك أي أمل ابدا لشرح السبب في أن الكون المادي هو كما هو عليه طالما أننا متعلقون بقوانين غير قابلة للتغيير أو قوانين فوقية موجودة بلا مبرر أو تفرضها العناية الإلهية، لكن البديل هو اعتبار كلا من قوانين الفيزياء والكون كأنهم يحتكمون كجزء واحد لا يتجزأ من نظام موحد ، ومدموجين سوية ضمن مخطط تفسيري مشترك، وبعبارة أخرى ، ينبغي أن يكون للقوانين تفسير من خلال الكون لا ينطوي أي احتكام إلى قوة خارجية. تفاصيل هذا التفسير هي مسألة للبحث في المستقبل. ولكن حتى يجد العلم نظرية قابلة لاختبار قوانين الكون فادعائه أنه يكون خاليا من الايمان هو واضح الزيف.
***
ملاحظات المترجم :
* نشر هذا المقال في موقع www.edge.org في عام 2007م تحت عنوان (اخذ العلم عن عقيدة).
** بول ديفيز: عالم فيزياء بريطاني ومدير مركز ما وراء عن المفاهيم الأساسية في العلوم في جامعة ولاية أريزونا إلى جانب مؤلف للكثير من الكتب في تبسيط العلوم منها " الله والكون والعقل" و"الثلاث الدقائق الاخيرة" و "الجائزة الكونية : كوننا مناسب للحياة" وغيرها.
1/ الاكوان المتعددة: احدى نتائج ميكانيكا الكم الفكرة التي قدمها العالم ايفرت عام 1957م وترى اننا نعيش في كون من مجموعة اكوان متعددة .



ملاحظة :

نشر هذا المقال في صحيفة الجمهورية (اليمنية) بتاريخ 21يوليو2010م 

    اضف تعليقاً عبر:

  • blogger
  • disqus
design by : bloggerinarab, powered by : blogger
كافة الحقوق محفوظة لمدونة عيون المعرفة 2014 - 2015