»نشرت فى : الاثنين، 18 أكتوبر 2010»بواسطة : »ليست هناك تعليقات

الطابع العلمي في قصص د/مصطفى محمود

عرفه المشاهد العربي من خلال برنامجه الشهير«العلم والإيمان» الذي اكتسح الشاشات العربية في وقت قصير وانطبعت صورته ـ أي د/مصطفى محمود ـ في ذهن المواطن العربي بأنه العالم والمتحدث بلسان العلم دائماً،والخاصة منهم من يعرف د/مصطفى محمود الأديب الذي بدأ حياته كاتباً للقصة القصيرة والمقال بأنواعه الاجتماعي والسياسي والفلسفي ومن ثم كاتباً للرواية والمسرحية وبعد ذلك ادب الرحلات سواء في الصحراء أو المدينة أو الغابة أو رحلته الشهيرة من الشك إلى الإيمان وهي رحلة نفسية لهذا الكاتب المبدع في ذاته الشخصية ناقلاً لها من أغوار الشك والمجادلة إلى برد اليقين والتصوف العميق والعاقل وفي كل الأدوار تطل شخصية الأديب متعمقة في فلسفة متناهية وبساطة متواضعة لتقديم الحياة في أكمل صورها..العلم سلاحه والكلمة مصباحه في هداية الساري في الطريق..

الإنطلاق من التخص

وإذ نتحدث عن القصة عند د/مصطفى محمود فللتميز الذي عرف به هذا الأديب عن كل أقرانه من الأدباء المعاصرين وهذا التميز يكمن في علمية هذه الشخصية أو بالأصح الطابع العلمي الذي صاحب نمو هذه الشخصية مما لانراه في أديب آخر فلم تكن العلمية ديدن يوسف إدريس ولانجيب محفوظ ـ رغم علو كعب الأخير في الروايةـ ولاآخرين كماهي لمصطفى محمود.
فمن لقب «المشرحتجي» الذي عرف به أيام ماكان طالباً في كلية الطب في جامعة القاهرة لكثرة وقوفه على الجثث المتراصة في مشرحة الكلية باحثاً عن سر الحياة«أثمر هذا الموقف كتابين له هما لغز الحياة ولغز الموت» إلى برنامجه الشهير«العلم والإيمان» مروراً بتخصصه في الأمراض الصدرية والقلبية ـ كطبيب ممارس ـ هذا كله في قصة منتهى النجاح في مجموعته عنبر7«1» أو حلاوة السكر في مجموعته أكل عيش«2»حيث يحكي بلسان دكتور شارحاً التفاصيل التي تجرى في عيادته من حضور المرضى والكشف عليهم وخلافه..أو حاكياً على لسان مريض من مرضاه كما في قصة لااحد في مجموعته عنبر7"إلى جوار فراشي تراصت عشرات زجاجات من أقراص الوميتال والفيرونال»«3» أو في قصة مدام س في مجموعته شلة الأنس «اخرج من جيبه حزمة من الروشتات القديمة المهملة..إنها خبرة اربعة عشر عاماً عن مرض لايبرأ روماتيزم في القلب في الصمامات لاعلاج له»«4» وإقرأ معي في قصة قتيل بدون قاتل في مجموعته الذين ضحكوا حتى البكاء» وأى غرابة في وجود أمبولة مورفين عند رجل مثل منصور الجبيلي مصاب بالتهاب مزمن في الكلى يعاوده المغص الكلوي بن حين وآخر»«5»..
وهكذا سارت الأمور لدى د/مصطفى محمود في أغلب قصصه القصيرة لقد حمل عيادته وآلاتها وأسماء الأدوية ووزعها على أبطال قصصه من مرضى وأطباء وحتى المشرحة لم تتوار عن قصصه..
فليس غريباً أن يخرج القاريء لقصصه بثقافة متواضعة في أسماء الأدوية وهو يرى صيدلية متنقلة في حنايا هذه القصص«6»..
ويبدو إن إخلاص د/مصطفى محمود لتخصصه في الطب ـ وهو الأمراض الصدرية والقلبية ـ طاغياً بحيث أصبحت هذه الأمراض هي محور تلك القصص شارحاً فيها أعراضها واسمع معي هذه العبارات.
«كان التشخيص سرطان الثدي من الدرجة الثانية» «7»
«يقول الباثولوجي انه كان بها سرطان وليد في أول مرحلة»«8»
«وحينما تيقظ في صباح اليوم التالي كانت قدماه وارمتين وكان الورم المائي يسري إلى أعلى ساقيه ببطء وكان معنى هذا أنه يعاني نوبة قلبية حادة»«9»
فروع أخرى
ولم يكن تخصصه في الطب فقط فقد انضمت إليه باقي فروع الطب الأخرى التي تخدم القصة كما تلاحظ في قصة حكاية الدكتور اسكندر في مجموعته نقطة الغليان التي يتحدث عن ردود الفعل والأفعال المنعكسة في الطب النفسي «10» ويحدث في بعض القصص أن يشرح الموضوع بشكل علمي محض بحيث أنك تحس أنك أمام مقال علمي أقرب منه كعمل أدبي مرتكز على العلم واسمع معي«لو أمكن استنساخ الجنين البشري بهذه الطريقة فإنه يمكن الحصول على الأجنة المتماثلة...سيظل الاستنساخ clonning حلم العلماء لسنين «11» وأما عناوين القصص فهي الأقرب إلى الطب بكثير..حكاية الدكتور اسكندر، دواء منوم، ساندويتش مخ، خانكة «12»..الخ.

وجوه العلم الأخر

وبعيداً عن الطب استثمر د/مصطفى محمود إطلاعه على العلوم في التعابير التي أراد أن يميز بها قصصه وهذا ليس غريباً على رجل العلم في هذا الزمان.. فتجد الفيزياء والكيمياء وعلوم الأحياء والتاريخ متراصة في قصص د/مصطفى محمود بشكل ملفت للنظر وتجده يفضل التعبير العلمي بديلاً عن الأدبي في توضيح بعض الأحوال النفسية لشخصيات قصصه ففي قصة ذرة اليورانيوم ـ التي يشرح فيها علاقة متوترة بين رجل وزوجته وتنامي هذا التوتر بينهما ـ يختتم القصة قائلاً: وانسحق الجبروت بالهوان كما تنسحق المادة بالمادة المناظرة وتتبدد في فضاء الكون، وانفجرت ذرة اليورانيوم» «13».
وفي قصة نهاية شبح التي تختتم بهروب الابن الثالث بالفلوس إلى الصحراء الغربية «نفس الصحراء التي ذهب إليها د/مصطفى محمود في مغامرته الغابة» يمزج بين ماشاهده في تلك الصحراء وعلوم الأحياء والطب فيقول «انه يعلم ماذا ستفعل لدغة الطريشة «اسم ثعبان» من ثعبان بهذا الحجم الذي يراه..يبدأ السم يسري في دمه ليصل إلى مراكز التنفس ويصيبها عضلات التنفس بالشلل «14» وغيرها الكثير مما نشاهده في قصصه العلمية المحضة
وكأمر طبيعي بعد هذا كله أن نجد لمصطفى محمود قصة تتخذ العلم محوراً لها وليس تطعيماً شكلي كما في القصص المشار إليها سابقاً بما نصفه أدب الخيال العلمي فكانت أولى رواياته العلمية رواية العنكبوت التي «تندرج تحت هذا اللون من القصص الذي يعرف بالقصص العلمي» «15» وقيمتها ـ أي هذه الرواية ـ انها «فاتحة لهذا اللون القصصي في أدبنا العربي» «16» وهذا اللون يحتاج إلى ثقافة علمية صحيحة إلى جانب الموهبة الأدبية ومن يجمع بين هاتين الميزتين مثل د/مصطفى محمود؟
«تدور أحداث هذه الرواية حول بطلين رئيسين الأول هو الدكتور داود صاحب المذكرات التي تكشف أحداث الرواية أما الآخر فهو راغب دميان المريض الذي تدور حوله الأحداث «17».
وفكرة الرواية معتمدة علمياً على دور النخاع المستطيل في المخ الذي يفترض د/مصطفى محمود أنه يقوم بدور التوليفة العصبية التي تمكن المخ من تجميع الأصوات مثل الراديو «وخلاصة التجارب انه يستطيع أن يسلط على الإنسان أشعة معينة ويحقنه بسائل معين فيتحول الإنسان الواحد إلى أكثر من واحد ويتمدد في مجرى الزمن وتيار التاريخ ليعيش أكثر من حياة وفي أكثر من عصر «18» رواية استفاد د/مصطفى محمود من تخصصه في الطب وعلوم الفيزياء وتحت تأثير فكرة التناسخ الهندي التي يقول عنها «وسيطرت عليّ فكرة التناسخ مدة طويلة وظهرت في روايات لي مثل العنكبوت والخروج من التابوت «19» وتظهر هذه الرواية المزج الجميل بين هذه العلوم.
أما روايته الأشهر فهي رجل تحت الصفر والتي فازت بجائزة الدولة المصرية في عام 1970م وتدور أحداثها بعد مائة عام من كتابتها كما نقرأ في أولها» صباح السبت أول الأسبوع أو يناير بداية شهور السنة عام 2067 «20» وقبل أن نلج إلى هذه الرواية أريد أن أوضح أن ماذهب إليه الكاتب جلال العشري في تعليقه على الرواية حيث يقول «عام 2067 اشارة إلى عام النكسة كان عاماً فاصلاً بين عصرين بل بين حضارتين، حضارة الطائرة وحضارة الصاروخ «21» ليس صحيحاً لأنه يفترض أن الرواية كُتبت في عام 1967م أي عام النكسة وهي في الأصل طبُعت في عام 1966م «22» أي قبل النكسة بعام فليس لها أي علاقة بالنكسة من قريب أو بعيد كما أنه ليس هناك أي إشارة لأحداث النكسة في الرواية إذ تتمحور حول تجربة رهيبة للدكتور شاهين في التحول إلى اشعاع يستطيع اختراق أي المجالات ومنافسة الدكتور عبدالكريم له في حب روزيتا التي اختارت الدكتور شاهين وتأثير ذلك على مجريات الأحداث التي صاغها د/مصطفى محمود بحبكة متقنة حيث جمع بين البعد الاجتماعي والتركيز على الأمور العلمية كالاستنساخ والنسبية والداينميكا الحرارية واسمع معي بداية الرواية «في مقعدين متقابلين جلس الدكتور شاهين والمهندس عبدالكريم كل واحد منهما يبدو كأنه نسخة من الآخر وكأنهما توأمان مع أن أولهما مصري والثاني عراقي وكذلك كان ركاب الصاروخ نسخاً متشابهة من صورة واحدة وكأنهم أخوة أشقاء «23».
فظهور الاستنساخ كفكرة علمية محضة لدى د/مصطفى محمود في زمن كتابة الرواية.. 1966م ـ هو الابداع الحقيقي حيث لم تتم أول تجربة على الاستنساخ إلا في أوائل الثمانينات على الضفادع والحشرات..ويبدو أن اطلاع د/مصطفى محمود على بدايات هذا العلم هو الذي امده بهذا النفس.

الختام

الرؤية العلمية للـ د/مصطفى محمود كانت ذخيرته في قصصه القصيرة أو رواياته وجعلته مميزاً عن غيره من الكتاب ولكن ممايؤخذ عليه في ذلك تناثر الأسماء الطبية بشكل ملفت كأننا أمام روشتة علاج أكثر مماهي قصة ومع هذا تظل حقيقة بناء د/مصطفى محمود أول لبنة لأدب الخيال العلمي في أدبنا العربي هو الانجاز العظيم الذي قدمه للقصة والرواية العربية حتى اليوم بحيث انار الطريق لمن تلته من أقلام تبنت هذا النوع من الأدب كنهاد شريف ود/نبيل فاروق ورؤوف وصفي وغيرهم.

الهوامش والمراجع:ـ
1ـ د/مصطفى محمود/عنبر 7 ص140.
2ـ د/مصطفى محمود/أكل عيش ص91.
3ـ د/مصطفى محمود/عنبر 7 ص84.
4ـ د/مصطفى محمود/شلة الأنس ص69.
5ـ د/مصطفى محمود/الذين ضحكوا حتى البكاء ص18.
6ـ انظر شلة الأنس ص 77ـ78 وص 78، أعمال صالحة جداً ص27 وص29..وغيرها.
7ـ د/مصطفى محمود/نقطة الغليان ص 59.
8ـ نفسه ص70.
9ـ د/مصطفى محمود/شلة الانس ص 75 ـ 76.
10ـ د/مصطفى محمود/نقطة الغليان ص50.
11ـ د/مصطفى محمود/ الذين ضحكوا حتى البكاء ص89.
12ـ إحدى مستشفيات القاهرة في الخمسينات.
13ـ د/مصطفى محمود/ نقطة الغليان ص86.
14ـ د/مصطفى محمود/ الذين ضحكوا حتى البكاء ص43.
15ـ جلال العشري/مصطفى محمود شاهد عصره ص 150.
16ـ نفسه ص151.
17ـ نفسه ص154.
18ـ نفسه ص 157.
19ـ د/مصطفى محمود/رحلتي من الشك إلى الايمان ص14.
20ـ جلال العشري..مرجع سابق ص 176.
21ـ نفسه..
22ـ روبرت ب .كامبل/اعلام الأدب العربي المعاصر ص 1196.
23ـ د/مصطفى محمود/ رجل تحت الصفر ص3.


***

ملاحظة :

نشر هذا المقال في صحيفة الجمهورية (اليمنية) بتاريخ 
3أغسطس2006م 

نشر في مجلة علم وخيال الإلكترونية العدد23 أكتوبر 2015م

    اضف تعليقاً عبر:

  • blogger
  • disqus
design by : bloggerinarab, powered by : blogger
كافة الحقوق محفوظة لمدونة عيون المعرفة 2014 - 2015