»نشرت فى : الخميس، 28 أبريل 2011»بواسطة : »ليست هناك تعليقات

العلم بين الحتمية والاحتمال..

هل يفسر العلم كل الظواهر حولنا؟
طبعاً لا.. ليس في إمكان العلم ذلك، لكن لديه القدرة على تفسير بعض الظواهر، لأن العلم لا يفسر الماهيات، بل يعلل الظواهر وليس كلها، فالعلم لا يقول ماهية الجاذبية، لكن ظواهر من تسارع أو قصور وغيرها..
وكذلك من طبيعة العلم أن يعطينا إحصائيات إجمالية، وليست فردية، فهو مثلاً لم يقس شحنة إلكترون مفرد بذاته، بل قاس الملايين منه ومن هذه الملايين أوجد شحنة الإلكترون على باب الإحصاء، وعلى ذلك فقس كثير من قضايا العلم...

الحتمية العلمية

عندما ظهرت قوانين نيوتن للحركة، والتي فسرت حركت الكواكب في القرن السابع عشر، ظهر فريق من الفلاسفة ينادون بالحتمية، وهو أن الكون محكوم بقوانين العلم، التي تسيره حتى يقول العالم الفرنسي لابلاس: “ إن جميع الحوادث هي نتيجة ضرورية للقوانين الطبيعية” فالكون في نظرهم هو آلة ميكانيكية تخضع لقوانين حتمية صارمة، وكل ما يحدث فيه له سبب ويؤدي إلى نتيجة حتمية ومحدودة..
فلاسفة المادية استفادوا من هذه النتائج في بناء صرح الحتمية، التي يريدونها فما دامت القوانين الميكانيكية تسير الكون وفق نواميسها فلا داعي (لفكرة ) الإله المسيطر والمنفذ للكون؟!!!!
^^.. لذا نجد "لابلاس" السابق الذكر يقدم كتاباً إلى نابليون عن الأفلاك السماوية، فيقول هذا الأخير : لقد أخبروني يا لابلاس أنك كتبت هذا الكتاب الضخم عن نظام الكون، ولم تشر إلى الله خالقه؟
فيرد "لابلاس" : لست بحاجة إلى هذه الفرضية ؟!!!
وجاءت نظرية التطور لداروين لتؤكد نفس هذا المفهوم – حتمية العلم وإلغاء الإله الصانع – ونؤكد أن الكائنات الحية نشأت تحت قانون الانتخاب الطبيعي والارتقاء ليس الخلق.
فهل العلم ظل داعماً لهذه الحتمية المطلقة والتي أدت أو دعمت موجة الإلحاد العارمة؟


تطوّر العلم

نسي هؤلاء أن من سمات العلم التراكم والثورية وهما يشكلان طابعاً ديناميكياً لتقدم المعرفة العلمية، حيث تتراكم المعارف والاكتشافات حتى تصل إلى الدرجة التي تشرع وقائع جديدة، في إعادة النظر في المعارف القديمة، مغيرة نظرة الإنسان للعالم.. ولنا أكبر مثال في ذلك منظور نيوتن للجاذبية على أنها قوة جاءت النسبية العامة لاينشتاين لتتوسع فيها، وترى أن الجاذبية هي هندسة للمكان والزمان من حول الكتل..
وهندسة أقليدس الجامدة حول المكان الثلاثي الأبعاد وسعتها وناقضت مسلماتها هندسة ريمان..
وأفكار نيوتن عن الضوء عارضتها أفكار هيجنز فالأول يرى أن الضوء جسيمات، والآخر يرى أن الضوء موجات، ليأتي بعدهما إينشتاين ليرى جسيمات الضوء في الفوتونات.. ويجمع بين الآراء دي برولي في إزدواجية الضوء..
وفكرة الكون المستقر اللانهائي في الزمان والمكان في القرن التاسع عشر خافتها فرضيات "هوبل" في توسع الكون واشتقاقات "لامير" لمعادلات النسبية التي أثبتت توسع الكون، لتأتي نظرية الانفجار العظيم لتثبت أن للكون بداية في الزمان والمكان..
وأفكار داروين حول التطور تتصادم مع علم الأجنة بعد إثبات تزوير صور الأجنة من قبل إرنست هيجل..
وكذلك الحفريات المكتشفة حول ما يسمى الانفجار الكمبري، فقد ظهرت كل شعب الحيوانات المعروفة اليوم في نفس الوقت، في منتصف الحقبة الجيولوجية المعروفة باسم العصر الكمبري. والعصر الكمبري عبارة عن حقبة جيولوجية يُقدر أنها استمرت لنحو 65 مليون سنة، أي ما بين نحو 570 إلى 505 مليون سنة ماضية. ولكن الظهور المفاجئ لمجموعات الحيوانات الرئيسية قد استغرق فترة زمنية قصيرة من العصر الكمبري، وتعرف هذه الفترة غالباً باسم “الانفجار الكمبري”.
هكذا بدل أن تتطور واحدة عن الأخرى، كما تقول نظرية التطور.
^^.. قوانين الداينميكا الحرارية تقف حجر عثرة أمام فكرة الحتمية، فهذه القوانين ترى أن الأنظمة تبدأ متناسقة، ثم تنتهي مضطربة مشوشة، فكيف بكوننا الذي نعيش فيه؟ فهل أفكار العلم التي تطورت والثورات العلمية حافظت على الحتمية؟

 ثورة الاحتمالات

في بداية القرن العشرين بدأت بوادر نظرية الكم، أو ميكانيكا الكم في الفيزياء على يد العالم "ماكس بلانك" هذه النظرية التي سبرت العالم الداخلي للذرة، فمن تفسير أشعة الضوء الصادر على أنه زخات متقطعة تدعى كمات quanta حتى تفسير كوبنهاجن الشهير.. هذه الأفكار فتحت أبواباً كثيرة حول فلسفة العلم والعلم نفسه.
فالضوء كما قلنا سلفاً أصبح له طبيعتان، فهو جسيمات ( الفوتوناتphotons ) وفي نفس الوقت موجات، أما كيفية التعامل معه فيعود للراصد نفسه اأو المراقب، فهو إذا رصده على أنه موجات سيتصرف الضوء موجات، وإذا رصده جسيمات سيتصرف جسيمات.. فهذه الطبيعة الثنائية للضوء وضحتها معادلة شرودنجر الشهيرة..
ثم كانت دالة الموجة wave function التي قدمها "ماكس بورن" – وهي دالة رياضية أو أداة رياضية تحدد احتمال تواجد الجسم في هذا المكان فكلما ازدادت سعة هذه الدالة ازداد احتمال تواجد الجسم هنا والعكس صحيح..
تماماً كما نتحدث عن موجة جريمة في ضاحية معينة للمدينة، فنقول إن موجة الجريمة عالية في المكان الفلاني، يعني نسبة الجريمة عالية، ولكن لا يمنع تواجد الجريمة في مكان آخر...
ولكي نحدد موقع جسم معين يجب أن تنهار دالة الموجة الاحتمالية، ليكون تواجد الجسم حقيقة في ذلك الموقع.
إذن الاحتمال هو سيد الموقف في العالم الذري وليس الحتمية ..

   الكون المحتمل 

 قي تجربة مثيرة في الفيزياء أوضحت مبدأ الاحتمال هذا واهميته.. اسمها "تجربة الشقين"..
لدينا جدار به ثقبان، وخلفه جدار عاكس، يحدد كمية ما ينفذ من الثقبين.
في المرة الأولى تم إطلاق رصاص من أحد الثقبين ورصد عدد الرصاص على الجدار العاكس، لا ريب أنه نفس العدد المار، وكذلك الحال إذا فتحنا كلا الثقبين..
في المرة الثانية أعدنا نفس التجربة، لكن باستعمال كمية من الماء – لاحظ أن الماء له تموجات- النتيجة أن كمية الماء المارة من الثقبين معاً أقل من مرورها من كل ثقب على حدة نظرا لتداخل موجات الماء فيما بينها.
^^.. في المرة الثالثة استعملنا رزمة من الالكترونات ـ ضوء ـ تصرفت نفس تصرف الماء... ماذا يعني هذا؟
يعني عند إمرار الماء أو الالكترونات أو الرصاص من أحد الثقبين، كانت النتيجة مطابقة لما مر، لأننا عرفنا مكان المرور..
لكن في الحالة الثانية لما فتحنا الثقبين معا – خصوصاً للماء والالكترونات- لم ندر من أي ثقب سلكت جزيئات تلك المواد – طبعاً ليس الرصاص فيما بينها لأن الرصاص لا موجة مصاحبة معه، لأنه جسم مادي يخضع للفيزياء التقليدية.. لكن الالكترونات والماء ذا الأمواج، فعند فتح الثقبين معاً، لم ندر من أي ثقب عبروا لذلك كان الكمية على الجدار العاكس، تختلف عما عبر.. هذه يقودنا إلى استنتاج مهم، انه لما علمنا – رصدنا – ثقب المرور – في حالة الثقب الواحد – انهارت دالة الموجة الاحتمالية المصاحبة للجسم، وبالتالي كانت النتيجة حتمية أما لما لم نعرف – لم نرصد - من أين عبرت الالكترونات أو الماء – في حالة الثقبين- لم تنهر دالة الموجة الاحتمالية المصاحبة للجسيم، فكانت النتيجة احتمالية..
إذن الراصد هو الذي يحدد وجود الظاهرة من عدمها يقول العالم الامريكي جون ويلر: “ لا تكون الظاهرة ظاهرة حقيقية إذا لم ترصد”.
فالراصد الخارجي عن الظاهرة هو الذي يحدد وجودها.
^^.. دعونا نفترض –جدلاً – أن الكون هو ذلك الالكترون الذي مر خلال الثقبين أو أن وجود الكون هو هذه التجربة ماذا نجد؟
أليس الكون موجوداً؟ وله ظهور؟ فمنْ رصده؟
يعني أن راصداً خارجياً – ليس نحن طبعاً ولا منْ جنسنا – هو الذي رصد الكون فجعل دالة الاحتمال تنهار فكان الكون.
^^.. لذلك يقول الفيزيائي ستيفن هوكينج: “ لا بد أن يكون هناك كائن خارج الكون يراقبه لكي تنهار الدالة الموجية للكون، ليصبح الواقع الذي نشاهده، فبدون هذا المراقب الخارجي سيتبخر الكون إلى دالة احتمال؟!!”
فالحتمية العلمية التي نادى بها رجال القرن السابع عشر، ومن بعدهم معتمدين على نتائج العلم آنذاك جاء العلم ونظرياته في القرن العشرين لتنسفه..


 وماذا بعد؟!!

العلم أداة رائعة في تفسير ما حولنا، لكن يجب أن نعرف أن العلم أيضاً محدود في تفسير كل شيء.. فعالم الميتافيزيقيا أو الغيب ليس ضمن إدراك العلم لأن العلم يعجز عن تفسير بعض الظواهر الفيزيائية المعاشة، فكيف عالم الغيب الذي لا يدخل ضمن أنبوبة الاختبار؟!
نظريات علم الفلك ترى أنما اكتشفناه حتى اليوم من الكون يمثل 5 بالمائة فقط، والباقي مادة مظلمة لا ندري عن كنهها، أي شيء وعلوم الأحياء تجد الأعاجيب في شريط D.N.A والهندسة الوراثية وغيرها..
ودعونا نردد مقولة العالم الفيزيائي العظيم ألبرت أينشتاين: “ العلم بلا دين أعرج والدين بلا علم أعمى.


***
ملاحظة :
نشر هذا المقال في صحيفة الجمهورية (اليمنية) بتاريخ 23فبراير2011م 

    اضف تعليقاً عبر:

  • blogger
  • disqus
design by : bloggerinarab, powered by : blogger
كافة الحقوق محفوظة لمدونة عيون المعرفة 2014 - 2015