الهمداني.. عالماً تجريبياً
...عرفنا الحسن الهمداني – لسان اليمن- رجل تاريخ وآثار لا يشق له غبار وتشهد بذلك موسوعته العظيمة – الإكليل- التي لم يصل لنا من أجزائها العشرة إلا أربعة أجزاء إلى جانب قصيدته الدامغة وصفة جزيرة العرب وغيرها، لكن ان يكون الهمداني عالم فيزياء أو كيمياء فهذا هو الذي لم نعرفه..
فحينما وقع بين يدي كتاب الباحث / محمود ابراهيم الصغيري الموسوم ( الهمداني مصادره وآفاقه العلمية) ظننت لأول وهلة ان المقصود بآفاقه العلمية هو علم التاريخ وما يتعلق به مما نبغ به الهمداني ،لكني بعد قراءتي للكتاب اتضح ان الآفاق العلمية تلك تدور حول موضوعات علمية طبيعية بحتة كنظرية الهمداني في الاحتراق ومفهومه لظاهرة الجاذبية الأرضية وأخيرا مساهمته في التعدين من خلال كتابه «الجوهرتان العتيقتان».
الكتاب يقع في أربعة فصول, الاول دار حول توثيق السيرة الذاتية للهمداني من مصادره والفصل الثاني يستعرض جهود علماء أوروبا لتفسير ظاهرة الاحتراق مدرجا نظرية الهمداني اما الفصل الثالث فيدور حول آراء العلماء العرب والاجانب في تفسير ظاهرة الجاذبية من ارسطو حتى نيوتن وآخر فصل فيتحدث عن الهمداني و ريادته العربية لعلم الأرض ( يشمل الجيولوجيا والتعدين) من خلال كتابه «الجوهرتان العتيقتان» نموذجا.
وفي هذه العجالة سأكتفي بالوقوف حول ما ذكره المؤلف في الفصلين الثاني والثالث حول نظرية الاحتراق وظاهرة الجاذبية وماذا قدمه الهمداني ..
ويجب ان نعرف ان العصر الذي عاش فيه الهمداني هو القرن العاشر الميلادي/الثالث الهجري فهو من مواليد عام 280هـ/893 م في زمن التشرذم في التاريخ العربي و الاسلامي فدولة الخلافة العباسية في اواخرها والدويلات المستقلة في اليمن قد بدأت في الظهور كالزيادية والزيدية واليعفرية ، والهمداني لم يُعرف عنه السفر إلا إلى مكة في صباه واستقر سبع سنوات هناك مابين عامي 918 و925م وعودته إلى اليمن واستقراره فيها حتى وفاته عام 360هـ/ 972م.
الهمداني ونظرية الاحتراق
لماذا تنطفئ شمعة مشتعلة إذا وضعت فترة زمنية في داخل ناقوس زجاجي فارغ من الهواء؟
طبعا كلنا نعرف الاجابة اليوم وهي غياب الهواء – خصوصا الأوكسجين – لكن هذا لم يكن معروفا في القرون السابقة فقد تم تفسير ظاهرة الاحتراق بما يعرف بنظرية الفلوجستون Phlogiston Theory والكلمة من اصل إغريقي تعني الاحتراق وقد اقترحها جورج أيرنست ستال في القرن السابع عشر و تنص على انه عندما تحترق مادة أو تصدأ فإنها تعطي مادة أعطاها هذا الاسم ، وتفسير الشمعة المنطفئة – على حسب تلك النظرية- ان الهواء أثناء الاحتراق يتشبع بالفلوجستون لذا تنطفئ الشمعة بعد فترة لأن الهواء لم يعد يحتمل أكثر من ذلك..
سيطرت هذه النظرية على الكيميائيين حتى عام 1783م حيث نشر العالم الفرنسي أنطوان لافوازييه كتاب( خواطر حول الفلوجستون) نادى فيه لإلغاء نظرية الفلوجستون والأخذ بنظرية الاوكسجين الذي اكتشفه جوزيف بريستلي في عام 1774م انه عامل الاحتراق وكذلك عامل التنفس ..
لكن اين الهمداني من ذلك ؟
في الجزء الثامن من الإكليل في باب القبوريات يعترض الهمداني على خبر مفاده: ان رجلين دخلا مغارة وامضيا فيها وقتا طويلا وهما يحملان شمعة يستدلان بها على رؤية الطريق المتعرجة والعميقة ..فيقول«هذا الحديث فيه زيادة لا تمكن لأنهم ذكروا المسلك في المغارة ثم دخولهم منها إلى (هوة) وابيات فقلّ بها النسيم ويعجز بها التنفس و يموت فيها السراج ومن طباع النفس وطباع السراج ان يحيا ما اتصل بالنسيم فاذا انقطع في مثل هذه المغارات العميقة والخروق المستطيلة لا يثبت فيها روح ولا سراج”
وفي موضع ثانٍ يقول «ويقبل الماء النار عن حاجز وتقبل النار الهواء وتقوى به لاتصالهما ولا تبقى في موضع لا هواء فيه»..وغيرها من المواضع التي يوردها المؤلف الصغيري في كتابه ..
طبعا الهمداني لم يقل عنصر الأوكسجين لكنه ربط بين هواء التنفس وبين الهواء الذي يمد عملية الاحتراق للبقاء ، ولا ننسى ان هذا الرأي في القرن العاشر الميلادي، أي قبل لافوازييه و بريستلي بثمانية قرون كاملة..
الهمداني وظاهرة الجاذبية
اما ظاهرة الجاذبية الارضية فيقدم المؤلف الصغيري اسهابا حول تطور مفهوم الإنسان لظاهرة الجاذبية منذ ارسطو وما قدمه العلماء العرب مثل ابن سينا والامام الرازي والبيروني وابو البركات البغدادي وكذلك العلماء الأوربيين السابقين لنيوتن مثل كوبر نيكوس وكبلر وجاليليو واخيرا صاحب الاكتشاف المعروف إسحاق نيوتن عام 1677م حسب نظريته التي تنص على «أن قوة الجذب بين جسمين تتناسب طرديًا مع كتلة كل منهما، ومعنى ذلك أنه كلما زادت كتلة أي من الجسمين زادت قوة الجذب بينهما».
لكن الأغرب ما قدمه البيروني (362 - 440هـ، 973 - 1048م) في مناقشاته للعلماء الذين اعترضوا على دوران الارض حول نفسها فقالوا «ان الارض لو هكذا دارت اذاً لطاردت من فوق سطحها الاحجار واقتلعت الأشجار»فرد البيروني«هذا لا يقع لأنه لابد لنا من ان ندخل في الحسبان ان الارض تجذب كل من عليها نحو مركزها» ، وفي موضع آخر يقول “والناس على الارض منتصبو القامات على استقامة اقطار الكرة وعليها ايضا نزول الاثقال إلى السفل” واذا كان هذا هو كلام البيروني الذي ولد بعد وفاة الهمداني ( توفي عام360هـ) فإن الهمداني قال في كتابه «الجوهرتان العتيقتان» – في سياق حديثه عن الأرض وما يرتبط بها من أركان ومياه وهواء – “ فمن كان تحتها – تحت الارض – فهو في الثبات في قامته كمن فوقها ومسقط قدمه إلى سطحها الاسفل ، كمسقطه إلى سطحها الاعلى وكثبات قدمه عليه فهي بمنزلة حجر المغناطيس الذي تجذب قوة الحديد إلى كل جانب. فأما ما كان فوقها فإن قوته وقوة الارض تجتمعان على جذبه وما دار به فالارض اغلب عليه إذا كان الحديد مثلا يسير اجزاء الحجر والارض اغلب عليه بالجذب لأن القهر من هذه الحجارة لا يرفع العلاة ولاسفله الحدّاد».
أليست نظرة ثاقبة في ذلك العصر – القرن العاشر الميلادي- بل ومتجاوزة نظرة نيوتن نفسها- إذا صح هذا الرأي- لأن الهمداني ربط الجاذبية بالارض نفسها – أي بالكتلة- في حين ربطها نيوتن بالاجسام ببعضها البعض ..
إلى جانب ان الهمداني جعل الارض مثل المغناطيس الذي يصنعه حوله مجال مغناطيسي وهي هنا مجال جذبي ، وهذه الافكار قريبة لما قدمه اينشتاين في نسبيته العامة حول مجال الجذب الذي تصنعه الارض وهذا المجال يسمى الجذبومغناطيسية أو المغناطيسية الجذبية gravitomagnetism وقد تم اختباره من قبل ناسا عام 2004م .
وفي الختام قد يقول قائل :- وما الفائدة من إظهار هذه العلوم؟
أقول: من اهم الفوائد هو اعادة كتابة تاريخ العلم مرة اخرى حتى لا ننسى الرواد من علمائنا العظام الذي يتصدرهم في اليمن الحسن الهمداني في علوم متعددة..
فحينما وقع بين يدي كتاب الباحث / محمود ابراهيم الصغيري الموسوم ( الهمداني مصادره وآفاقه العلمية) ظننت لأول وهلة ان المقصود بآفاقه العلمية هو علم التاريخ وما يتعلق به مما نبغ به الهمداني ،لكني بعد قراءتي للكتاب اتضح ان الآفاق العلمية تلك تدور حول موضوعات علمية طبيعية بحتة كنظرية الهمداني في الاحتراق ومفهومه لظاهرة الجاذبية الأرضية وأخيرا مساهمته في التعدين من خلال كتابه «الجوهرتان العتيقتان».
الكتاب يقع في أربعة فصول, الاول دار حول توثيق السيرة الذاتية للهمداني من مصادره والفصل الثاني يستعرض جهود علماء أوروبا لتفسير ظاهرة الاحتراق مدرجا نظرية الهمداني اما الفصل الثالث فيدور حول آراء العلماء العرب والاجانب في تفسير ظاهرة الجاذبية من ارسطو حتى نيوتن وآخر فصل فيتحدث عن الهمداني و ريادته العربية لعلم الأرض ( يشمل الجيولوجيا والتعدين) من خلال كتابه «الجوهرتان العتيقتان» نموذجا.
وفي هذه العجالة سأكتفي بالوقوف حول ما ذكره المؤلف في الفصلين الثاني والثالث حول نظرية الاحتراق وظاهرة الجاذبية وماذا قدمه الهمداني ..
ويجب ان نعرف ان العصر الذي عاش فيه الهمداني هو القرن العاشر الميلادي/الثالث الهجري فهو من مواليد عام 280هـ/893 م في زمن التشرذم في التاريخ العربي و الاسلامي فدولة الخلافة العباسية في اواخرها والدويلات المستقلة في اليمن قد بدأت في الظهور كالزيادية والزيدية واليعفرية ، والهمداني لم يُعرف عنه السفر إلا إلى مكة في صباه واستقر سبع سنوات هناك مابين عامي 918 و925م وعودته إلى اليمن واستقراره فيها حتى وفاته عام 360هـ/ 972م.
الهمداني ونظرية الاحتراق
لماذا تنطفئ شمعة مشتعلة إذا وضعت فترة زمنية في داخل ناقوس زجاجي فارغ من الهواء؟
طبعا كلنا نعرف الاجابة اليوم وهي غياب الهواء – خصوصا الأوكسجين – لكن هذا لم يكن معروفا في القرون السابقة فقد تم تفسير ظاهرة الاحتراق بما يعرف بنظرية الفلوجستون Phlogiston Theory والكلمة من اصل إغريقي تعني الاحتراق وقد اقترحها جورج أيرنست ستال في القرن السابع عشر و تنص على انه عندما تحترق مادة أو تصدأ فإنها تعطي مادة أعطاها هذا الاسم ، وتفسير الشمعة المنطفئة – على حسب تلك النظرية- ان الهواء أثناء الاحتراق يتشبع بالفلوجستون لذا تنطفئ الشمعة بعد فترة لأن الهواء لم يعد يحتمل أكثر من ذلك..
سيطرت هذه النظرية على الكيميائيين حتى عام 1783م حيث نشر العالم الفرنسي أنطوان لافوازييه كتاب( خواطر حول الفلوجستون) نادى فيه لإلغاء نظرية الفلوجستون والأخذ بنظرية الاوكسجين الذي اكتشفه جوزيف بريستلي في عام 1774م انه عامل الاحتراق وكذلك عامل التنفس ..
لكن اين الهمداني من ذلك ؟
في الجزء الثامن من الإكليل في باب القبوريات يعترض الهمداني على خبر مفاده: ان رجلين دخلا مغارة وامضيا فيها وقتا طويلا وهما يحملان شمعة يستدلان بها على رؤية الطريق المتعرجة والعميقة ..فيقول«هذا الحديث فيه زيادة لا تمكن لأنهم ذكروا المسلك في المغارة ثم دخولهم منها إلى (هوة) وابيات فقلّ بها النسيم ويعجز بها التنفس و يموت فيها السراج ومن طباع النفس وطباع السراج ان يحيا ما اتصل بالنسيم فاذا انقطع في مثل هذه المغارات العميقة والخروق المستطيلة لا يثبت فيها روح ولا سراج”
وفي موضع ثانٍ يقول «ويقبل الماء النار عن حاجز وتقبل النار الهواء وتقوى به لاتصالهما ولا تبقى في موضع لا هواء فيه»..وغيرها من المواضع التي يوردها المؤلف الصغيري في كتابه ..
طبعا الهمداني لم يقل عنصر الأوكسجين لكنه ربط بين هواء التنفس وبين الهواء الذي يمد عملية الاحتراق للبقاء ، ولا ننسى ان هذا الرأي في القرن العاشر الميلادي، أي قبل لافوازييه و بريستلي بثمانية قرون كاملة..
الهمداني وظاهرة الجاذبية
اما ظاهرة الجاذبية الارضية فيقدم المؤلف الصغيري اسهابا حول تطور مفهوم الإنسان لظاهرة الجاذبية منذ ارسطو وما قدمه العلماء العرب مثل ابن سينا والامام الرازي والبيروني وابو البركات البغدادي وكذلك العلماء الأوربيين السابقين لنيوتن مثل كوبر نيكوس وكبلر وجاليليو واخيرا صاحب الاكتشاف المعروف إسحاق نيوتن عام 1677م حسب نظريته التي تنص على «أن قوة الجذب بين جسمين تتناسب طرديًا مع كتلة كل منهما، ومعنى ذلك أنه كلما زادت كتلة أي من الجسمين زادت قوة الجذب بينهما».
لكن الأغرب ما قدمه البيروني (362 - 440هـ، 973 - 1048م) في مناقشاته للعلماء الذين اعترضوا على دوران الارض حول نفسها فقالوا «ان الارض لو هكذا دارت اذاً لطاردت من فوق سطحها الاحجار واقتلعت الأشجار»فرد البيروني«هذا لا يقع لأنه لابد لنا من ان ندخل في الحسبان ان الارض تجذب كل من عليها نحو مركزها» ، وفي موضع آخر يقول “والناس على الارض منتصبو القامات على استقامة اقطار الكرة وعليها ايضا نزول الاثقال إلى السفل” واذا كان هذا هو كلام البيروني الذي ولد بعد وفاة الهمداني ( توفي عام360هـ) فإن الهمداني قال في كتابه «الجوهرتان العتيقتان» – في سياق حديثه عن الأرض وما يرتبط بها من أركان ومياه وهواء – “ فمن كان تحتها – تحت الارض – فهو في الثبات في قامته كمن فوقها ومسقط قدمه إلى سطحها الاسفل ، كمسقطه إلى سطحها الاعلى وكثبات قدمه عليه فهي بمنزلة حجر المغناطيس الذي تجذب قوة الحديد إلى كل جانب. فأما ما كان فوقها فإن قوته وقوة الارض تجتمعان على جذبه وما دار به فالارض اغلب عليه إذا كان الحديد مثلا يسير اجزاء الحجر والارض اغلب عليه بالجذب لأن القهر من هذه الحجارة لا يرفع العلاة ولاسفله الحدّاد».
أليست نظرة ثاقبة في ذلك العصر – القرن العاشر الميلادي- بل ومتجاوزة نظرة نيوتن نفسها- إذا صح هذا الرأي- لأن الهمداني ربط الجاذبية بالارض نفسها – أي بالكتلة- في حين ربطها نيوتن بالاجسام ببعضها البعض ..
إلى جانب ان الهمداني جعل الارض مثل المغناطيس الذي يصنعه حوله مجال مغناطيسي وهي هنا مجال جذبي ، وهذه الافكار قريبة لما قدمه اينشتاين في نسبيته العامة حول مجال الجذب الذي تصنعه الارض وهذا المجال يسمى الجذبومغناطيسية أو المغناطيسية الجذبية gravitomagnetism وقد تم اختباره من قبل ناسا عام 2004م .
وفي الختام قد يقول قائل :- وما الفائدة من إظهار هذه العلوم؟
أقول: من اهم الفوائد هو اعادة كتابة تاريخ العلم مرة اخرى حتى لا ننسى الرواد من علمائنا العظام الذي يتصدرهم في اليمن الحسن الهمداني في علوم متعددة..
***
ملاحظة :
نشر هذا المقال في صحيفة الجمهورية (اليمنية) بتاريخ 13مايو2011م
اضف تعليقاً عبر:
إرسال تعليق