»نشرت فى : الأربعاء، 24 نوفمبر 2010»بواسطة : »ليست هناك تعليقات

أسباب النزول بين تاريخية الأحكام ومعقوليتها

..إن المتصدي لفهم مراد القرآن الكريم في آياته يجب ان يلم بعلوم شتى مساعدة له على الفهم فلا يصح ان يفسر القرآن " بما يخطر له من بادئ الرأي دون إحاطة بجوانب الآية ومواد التفسير مقتصرا على بعض الأدلة دون بعض كأن يعتمد على ما يبدو من وجه في العربية فقط"(1).
بل يجب عليه التبحّر في علوم العربية وحقائقها إلى جانب علوم أخرى منها اسباب النزول - محور حديثنا- وعلوم الفقه والسير والحديث وغيرها ..
ولعل ما دفعني لإفراد هذا المجال لأسباب النزول هو ما رأيته من (الهجوم) غير المعلن على اسباب النزول من قبل عدد من الكتّاب والمفكرين الذين نادى البعض منهم لعدم الاكتراث باسباب النزول بحجة انها مرتبطة (بحدث تاريخي) قد انتهى عهده إلى جانب انها (تقيّد) مدلول النص وتجعله مرتبطا بتلك الحادثة التي من اجلها نزلت الآية وهذا ما يتنافى - على حسب رأيهم - مع صلاحية القرآن واحكامه لكل زمان ومكان ؟!
الوضع التاريخي
الأمر هنا لا يتوقف عند (نص) الآية بل ينسحب على ( الحكم) الذي تحمله الآية - ان كانت من آيات الاحكام- مما يجعل الاحكام التشريعية من هذا المنظور (نسبية) وعرّفت "(التاريخية.. والتاريخانية) هي نفي الخلود عن معاني وأحكام النصوص الدينية، والادعاء بأنها (نسبية)، لاءمت زمان نزولها، فلما تطور الواقع، طويت صفحاتها مع طي صفحات التاريخ، ولقد عممت الوضعية الغربية هذه النزعة (التاريخية) على كل النصوص الدينية، دونما تمييز بين نصوص المبادئ والقواعد والأحكام التي جاءت في الثوابت، وبين تلك التي جاءت في (الفقه) ـ علم الفروع لمتغيرات المعاملات الدنيوية! أي دونما تمييز بين الوحي الإلهي وبين الاجتهاد البشري!"(2) وكأننا أمام حدث تاريخي لا تشريع ؟!
وهو عينه ما نادى به المستشار د/محمد سعيد العشماوي في كتبه حيث بدأ انتصاره لاسباب النزول ضد الفقهاء الذين يكون عندهم " تفسير آيات القرآن الكريم يقوم على انتزاع الآية من السياق وفصلها عن اسباب النزول واستعمالها تبعا للتركيب اللغوي أو وفقا للتكوين اللفظي دون سواه "(3) لكن هذا (الانتصار) لم يكن جزافاً بل لغاية وهي (إسقاط) خلود احكام التشريع في القرآن وأنها مرتبطة فقط بالحوادث التي من اجلها نزلت الآيات فيقول" احكام التشريع في القرآن ليست مطلقة ولم تكن مجرد تشريع مطلق "(4) ويوضح ذلك في كتاب آخر فيقول "يعني ان كل آية تتعلق بحادثة بذاتها فهي مخصصة بسبب النزول وليست مطلقة"(5).
فهو يلتقي مع (جارودي) في نفي خلود احكام النصوص الدينية وإن انطلق من طريق آخر ؟!!
ولقد نادي (بالتجرّد) عن اسباب النزول آخرون تحت عذر(عالمية) الإسلام وعدم حصره على ظروف وملابسات جزيرة العرب ابان عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) أثناء (تنزّل) القرآن..
معقولية الحكم الشرعي
وعلى النقيض هناك من يرى الانطلاق من أسباب النزول لأنها هي الحاكمية ( لمعقولية) الحكم الشرعي فتجعل من الاجتهاد في تطبيق هذا الحكم باختلاف الأحوال والأوضاع امرا ميسورا.. فيقول المفكر المعروف د/ محمد عابد الجابري: بناء معقولية الحكم الشرعي على (أسباب النزول) في إطار اعتبار المصلحة يُفسح المجال لبناء معقوليات أخرى عندما يتعلق الأمر بـ(أسباب نزول) أخرى، أي بوضعيات جديدة، وبذلك تتجدد الحياة في الفقه، وتتجدد الروح في الاجتهاد، وتصبح الشريعة مسايرة للتطور قابلة للتطبيق في كل زمان ومكان"(6).
ويضرب مثلا على ذلك في حد السرقة فيقول "إذا تحررنا من سلطة القياس والانشداد إلى الألفاظ، وانصرفنا باهتمامنا بدلاً من ذلك إلى البحث عن (أسباب النزول)، وهي هنا الوضعية الاجتماعية التي اقتضت نوعاً ما من المصلحة وطريقة معينة في مراعاتها، فإننا سنجد أن قطع يد السارق تدبير مبرر ومعقول داخل تلك الوضعية، وهكذا فبالرجوع إلى زمن البعثة المحمدية والنظر إلى الأحكام الشرعية في إطار الوضعية التي كانت قائمة يومئذ سنهتدي إلى المعطيات التالية: أولاً: أن قطع يد السارق كان معمولاً به قبل الإسلام في جزيرة العرب. ثانياً: أنه في مجتمع بدوي ينتقل أهله بخيامهم وإبلهم من مكان إلى آخر طلباً للكلأ؛ لم يكن من الممكن عقاب السارق بالسجن، إذ لا سجن ولا جدران ولا سلطة تحرس المسجون وتمده بالضروري من المأكل والملبس…. الخ، وإذن فالسبيل الوحيد هو العقاب البدني. وبما أن انتشار السرقة في مثل هذا المجتمع سيؤدي حتماً إلى تقويض كيانه، إذ لا حدود ولا أسوار ولا خزائن، فلقد كان من الضروري جعل العقاب البدني يلبي هدفين: تعطيل إمكانية تكرار السرقة إلى ما لا نهاية، ووضع علامة على السارق حتى يُعرف ويحتاط الناس منه، ولا شك أن قطع اليد يلبي هذين الهدفين معاً، وإذن فقطع يد السارق تدبير معقول تماماً في مجتمع بدوي صحراوي يعيش أهله على الحل والترحال، ولما جاء الإسلام وكان الوضع العمراني الاجتماعي زمن البعثة لا يختلف عما كان عليه من قبل احتُفظ بقطع اليد كحد للسرقة من جملة ما احتُفظ به من التدابير والأعراف والشعائر التي كانت جارية في المجتمع العربي قبل الإسلام، مع إدراجها في إطار خلقية الإسلام"(7) .
أقول هل تصح الاحكام إذا كانت (معقوليتها) هي مقياس الحكم ؟!
كلام الجابري يقود إلى ان الاحكام في التشريع ذات نفس تاريخي وهو نفسه ما نادى به السابقون لكن بثوب جديد يجعل من الواقع هو الذي (يفرز) الاحكام الجديدة وقد نادى بذلك الدكتور/ نصر حامد ابو زيد حيث يقول " إن البعد التاريخي الذي نتعرض له هنا يتعلق بتاريخية المفاهيم التي تطرحها النصوص من خلال منطوقها فليس ثمة عناصر جوهرية ثابتة في النصوص بل لكل قراءة - بالمعنى التاريخي والاجتماعي - جوهرها الذي تكشفه في النص"(8).
منهج الحل
مما سبق نجد ان (التاريخية أو التاريخانية) هي المرتكز الجميع وإن اختلفت تعاملاتهم معها اثناء التعرض لمسألة (اسباب النزول) اسقاطا أو تجميدا للنص لكني أقول إن إسقاط اسباب النزول لا يمكن للاعتبارات التالية:-
-"ان اسباب النزول تضع القارىء والمفسر في اطار الملابسات والدلالات الاصلية فتعين على الفهم في ضوء واقع عصر التنزيل"(9) فالدلالات اللفظية لا تكفي وحدها لفهم الآية ..
- ان عدم وجود اسباب نزول قد تغيّر من فهمنا لبعض الآيات إلى دلالات بعيدة عن مراد القرآن فالقرآن مراعٍ لحالة الذين نزل اليهم - ضمن أسباب النزول - أول مرة والذي يجب ان نراعيه نحن - لا أقول نجمد عنده- حتى لا يأتي المعنى غير المراد وقد شنّع ابن سيرين على الخوارج فقال " إنهم عمدوا إلى آيات الوعيد النازلة في المشركين فوضعوها على المسلمين فجاءوا ببدعة القول بالتكفير بالذنب ، وقد قال الحرورية لعلي رضي الله عنه يوم التحكيم «إن الحكم إلا لله» فقال علي كلمة حق أريد بها باطل وفسرها في خطبة له في نهج البلاغة "(10).
- اسباب النزول إلى جانب السياق " فيصل فاصل في تحديد الخصوص أو العموم وبيان التشريع من غير التشريع "(11).
- أما قضية العصرية وأن احكام القرآن صالحة لكل زمان ومكان فكون " أسباب النزول من مادة التفسير ، أنها تعين على تفسير المراد ، وليس المراد أن لفظ الآية يقصر عليها ؛ لأن سبب النزول لا يخصص"(12) والعلماء متفقون على ان (العبرة بعموم اللفظ لا خصوص السبب) ويوضح ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية قائلا: قد يجيء كثيرا من هذا الباب قولهم هذه الآية نزلت في كذا لا سيما إن كان المذكور شخصا، كقولهم إن آية الظهار نزلت في امرأة ثابت بن قيس وإن آية الكلالة نزلت في جابر بن عبد الله وإن قوله وأن احكم بينهم نزلت في بني قريظة والنضير ونظائر ذلك مما يذكرون أنه نزل في قوم من المشركين بمكة أو في قوم من اليهود والنصارى أو في قوم من المؤمنين فالذين قالوا ذلك لم يقصدوا أن حكم الآية يختص بأولئك الأعيان دون غيرهم فإن هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل على الإطلاق والناس وإن تنازعوا في اللفظ العام الوارد على سبب هل يختص بسببه فلم يقل أحد إن عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعين وإنما غاية ما يقال إنها تختص بنوع ذلك الشخص فتعم ما يشبهه ولا يكون العموم فيها بحسب اللفظ والآية التي لها سبب معين إن كانت أمرا ونهيا فهي متناولة لذلك الشخص ولمن كان بمنزلته"(13).
- والى الذين جعلوا اسباب النزول حجر عثرة دون فهم لفظ القرآن أقول: كم هي مواضع اسباب النزول بمعنى كم هي الآيات المرتبطة بأسباب النزول يجيب الدكتور/محمد عمارة قائلا" إن السيوطي، الذي توسع (فجمع) كل الروايات في أسباب النزول ـ وجميعها أحاديث آحاد: قد بلغت الآيات التي روى فيها سبب نزول عنده 888 آية، من جملة آيات القرآن، البالغة 6236 آية، أي أن نسبتها إلى آيات القرآن لاتتعدى 14%. أما الواحدي النيسابوري (468 هـ 1075م) ـ وهو الذي تحرى في رواية أحاديث أسباب النزول ـ فإن عدد الآيات التي ثبت عنده أن لها أسباب نزول هي 472 آية، أي 7.5% من جملة آيات القرآن الكريم! "(14)
اي ان أغلب القرآن نزل ابتداء بدون أسباب نزول ؟! اخيرا معقولية الحكم سبيل لتطوره باوضاع جديدة قد تصل إلى مناقضة الحكم الاصلي أو تغييره مما يضفي على المغيّر -أياً كان- صفة التشريع والمشرع هو الله وليس الواقع المعاش ولا معقولية الحكم... والله اعلم.

ü الهوامش:
1/ التحرير والتنوير لابن عاشور ج1ص30
2/ مجلة العربي ، جارودي وتاريخية احكام القرآن العدد474 ،مايو 1998
3/ معالم الإسلام ، المستشار د/محمد سعيد العشماوي ص165
4/ نفسه ص120
5/ الإسلام السياسي ، المستشار د/محمد سعيد العشماوي ص44
6/ وجهة نظر نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر ، د/ محمد عابد الجابري ص61
7/ نفسه ص60-61
8/ مفهوم النص ، د/ نصر حامد ابو زيد ص82
9/ التفسير الماركسي للاسلام ، د/ محمد عمارة ص60
10/ التحرير والتنوير ج1ص50
11/ الدولة الإسلامية بين العلمانية والسلطة الدينية د/ محمد عمارة ، ص 42
12/ التحرير والتنوير ج1ص24
13/ الاتقان في علوم القرآن للإمام السيوطي ج1ص99
14/ سقوط الغلو العلماني د/ محمد عمارة ، ص 225

  

    اضف تعليقاً عبر:

  • blogger
  • disqus
design by : bloggerinarab, powered by : blogger
كافة الحقوق محفوظة لمدونة عيون المعرفة 2014 - 2015