»نشرت فى : الجمعة، 15 يناير 2021»بواسطة : »ليست هناك تعليقات

اتركوا لي عالمي



لكل واحد منا عالَمُه الخاص به،
عالَمُه الذي صنع آفاقَه بتطلعاته وأحلامه وانكساراته وتهويماته.
عالًمُه الذي يتقاطع مع الواقع المعاش ويتفاعل معه سلبا وإيجابا.
أنت بنفسك تصنع هذا العالَم الافتراضي الخاص بك والذي يتجاوز الفيس والتويتر وكل وسائل التواصل الاجتماعي، بل وفضاء النت نفسه، ليكون هذا العالَم هو الفضاء الرحب الذي تعيش فيه سنوات قد تطول لتكون عمرك الزمني نفسه!
تعيش ضمنه ناحتا ومعدِّلا ومطورا فيه ليكون بصمتك الخاصة بك.
إنه أوسع من مسمى عالَم افتراضي، لأنه الحياة بكامل طولها وعرضها وأبعادها،
أبعاد لا تحدها قيود الزمان والمكان والبيولوجيا، بل امتزاج الخيال والواقع والأفكار.
عالَم تتداخل معه عوالِم الآخرين الخاصة بهم بلا قيود ولا محاذير من أي نوع، بل بلا قوانين!
عالَم أوسع من فكرة (العوالِم المتعددة) في فيزياء ميكانيكا الكم، وإن كان عالَمُك مزيج من عوالِم متعددة!

سأحدثكم عن عالَمي:
إن عالمي هو الفيزياء بكل تاريخها الطويل منذ آراء أرسطو في القرن الرابع قبل الميلاد حتى الأفكار الجديدة التي يتم اختبارها في مسرّع (سيرن) في القرن الحادي والعشرين!
عالَم أجوب فيه مع آينشتاين و(تطور الأفكار في الفيزياء) ونيوتن وما سطّره في (البرنكيبيا) ورجالات ميكانيكا الكم ومفارقات هذه الأخيرة التي تخالف الحس المشترك في نتائجها!

في عالمي للفن متاحف عامرة، لأن الفن روح الحياة.
هل يمكن أن نتصور عالما بلا فن؟
أظنه لن يكون عالما بما تعنيه كلمة عالم بقدر كونه خرابة شعثاء أناخت فوق أعظمها السنون!
في عالمي يصدح صوت أبي بكر سالم بلفقيه – ذلك الفنان المميز لدي- بأغانٍ سمعتها في ربيع العمر حتى خريفه!
وتنطق لوحات الفن التشكيلي بكل لون صبغت به عالمي بلوحات خالدة وثّقها أستاذنا محمد زكريا توفيق في كتابه الإلكتروني (قصة الفن التشكيلي) في رحلة ممتعة أو ماتعة – حسب ما تقول اللغة العربية - منذ الفن المصري القديم وحتى الفن الحديث في أكثر من 630 صفحة.
وإن طعّمت مختاراتي باستعارة لوحات (ربانية) مما التقطته عدسات تليسكوب الفضاء الأمريكي (هابل) من صور مذهلة للفضاء الخارجي!

لا حديث عن عالم بلا رياضيات، خصوصا وأنها صاحبة اليد الطولى في هندسة هذا الكون من حولنا، بل إن الكون ما هو إلا الرياضيات مجسدا كما يعتقد عالم الرياضيات ماكس تجمارك!
أقول إن الرياضيات صاحبة أيادٍ سابغة على عالمي بكل تقلباتها وتاريخها الفريد منذ فيثاغورث وطاليس في اليونان القديمة قبل الميلاد وحتى إبداعات ميكائيل عطية في الاثبات لمبرهنة فيرما الأخيرة.
الرياضيات هي الحظ السعيد للبشرية كما يقول كانط، وتظهر روعتها في فرادتها وتحدياتها مع الواقع.

وللفن السابع نصيب من عالمي لكن موضعه في نوعين من إبداعاته؛ الأول: أفلام التاريخ والأساطير (ما الأسطورة إلا طفولة التاريخ) مجسدة على الشاشة (منْ شاهد فيلم ملك الخواتم أو لورنس العرب يعرف ما أقول)، أما الثاني فهي أفلام الخيال العلمي بكل مؤثرات هوليوود وضخامة إنتاجاتها منذ (فلاش جوردن) وحتى (انترستلر).

في عالمي للتفسير نصيب، ولو أنها نقلة نوعية من الفن السابع إلى التفسير، لكن كما قلنا سابقا (لا قيود ولا محاذير من أي نوع، بل بلا قوانين)!
عشتُ مع تفسير القرآن الكريم زمنا في بداية الألفية الثالثة وما أزال، إنه السباحة مع إبداعات العقول المفكرة في القرآن عبر العصور منذ النزول وحتى اليوم، وكيف تقلبت الآراء تبعا لثقافة المفسر/ المفكر في كل عصر، وكل واحد يريد أن يقدم كشفا جديدا أو معنى آخر للآية الكريمة أو للقرآن كاملا؛ ما أجمل السباحة مع الزمخشري في (كشافه) أو السامرائي و(لمساته) أو الشعراوي و(خواطره) والجابري و(فهم القرآن الحكيم)، والتساؤل عن آدم الأول مع عبد الصبور شاهين في (أبي آدم) وغيرهم الكثير.

في عالمي للأدب نصيب لا يقل مساحة – لو صح أن لعالمي مساحة معينة- عن العلم، وهنا أقول لا فصل بين العلوم الإنسانية عن الطبيعية، بل لا وجود لهذا الفصل إلا في التصنيف فقط، لأن كل العلوم والمعارف شجرة واحدة تظلل الإنسانية منذ البداية.
في القصة/ الرواية أجد نفسي أتمشى في حارات نجيب محفوظ الذي قرأت أغلب أعماله الإبداعية، وأتساءل كيف استطاع محفوظ أن ينقل الحارة المصرية إلى الأوراق مجسدة؟ ومثله يوسف إدريس الذي صاغ في قصصه نماذج فريدة من شخصيات مصرية صميمة.
ولا يبخل الأدب العالمي أن يجود علينا بأنبياء سرد يظهرون في كل عصر أمثال تشيخوف وجوركي وهمنجواي وماركيز ومحفوظ وغيرهم الكثير.
فما الرواية إلا بطاقة تعريف بعوالم الإنسانية المتنوعة لما تقرأها بأقلام مبدعيها من كل ثقافة ولون.

والجانب الآخر للأدب هو الشعر، وما أدراك ما الشِعر، لا أظن أن هناك تعريفا محددا للشِعر – خصوصا اليوم بعد تداخله مع النثر، ألم يقل نزار قباني:
ما هو الشِعرُ؟ لستَ تلقى مجيبا
هو بين الجنون والهذيانِ؟!
في هذا الجنون والهذيان أهيم مع أشعار مولانا البردوني وجه اليمن الحزين بكل ما تعنية الجملة من معنى أو معان سواء في شِعره أو نثره، ونزار قباني، برغم ما يُرمى به من تهم شتى، لكني أجده النفسية العربية مجسدة في شخص؛ لقد باح نزار بكل ما لم يستطع العربي أن يبوح به بكل جرأة تصل إلى حد الصفاقة!
ودعوني أتساءل ألا تجيش في نفس المواطن العربي كل تقلبات نزار من نزوات وأهواء وغضب وحب وغيره؟
الفارق أن نزار قالها شِعرا في أعماله، سواء الغزلية أو السياسية، ومثله في الجانب السياسي ولو بشكل أضخم الشاعر العراقي أحمد مطر، ومن قبلهما المتنبي شاعر العربية الأكبر الناطق بكل حكمة في شِعره، وكان مضطربا متقلبا يشابه عصره في القرن العاشر الميلادي وقد قال عنه طه حسين: "إن المتنبي جاء العالم في فترة مليئة بالاضطرابات والتناقضات، لذا كان الشخص الوحيد الذي يمكن أن يتكيف مع هذا العالم هو شخص مليء بصراعات داخلية مماثلة".
ولعل الشاعر الذي فتحت عيني على شعره مبكرا هو أحمد شوقي بكل الضخامة التي خلفها والغزارة في الإنتاج والتنوع، شاعر كتب عن كل شيء تقريبا.
ومدرسة مميزة أخرى في الشعر هي محمود درويش بتميزه وجمال إلقائه الذي لا ينافسه أحد من الشعراء المعاصرين له، وغير ذلك من شعراء متفرقين يبدعون هنا وهناك في عالمي ولا أنسى إعجابي بقصائد الحب القديمة التي تحرس القمر الحزين من الدخان!

في عالمي هناك كتّاب حازوا على مواقع أثّرت فيّ وما تزال؛ أولهم مثلي الأعلى مصطفى محمود، صاحب (العلم والإيمان) البرنامج الذي عرفه به المشاهد، لكن هل عرف أنه كاتب لا يشق له غبار في قصصه القصيرة ورواياته ومقالاته ومسرحياته ورحلاته؟
رجل عاش بالطول والعرض وتقلب مع الحياة وتقلبت معه مخلّفا وراءه 89 كتيبا، ومعارك فكرية لم يزل صداها مترددا حتى اليوم، هي صدى هذا المعترك طيلة 88 عاما هي مجمل عمره المديد.

ومن هؤلاء الكاتب أحمد خالد توفيق واحد من هؤلاء في إبداعه القصصي التي تستمتع بكل عمل منها وهي تجرفك بعيدا بأسلوبه الأخّاذ في سلاسل حجمها يذكرك بأعمال الأطفال لكن الجميل ما فيها من كلمات، أما مقالاته فرونق آخر مع سخرية تشيع في جوانبها ولمَ لا وما عالمنا إلا سخرية متواصلة!

والساخرون الثلاثة المفضلون لدي بكل تجلياتهم هم: جلال عامر ومحمود السعدني ومحمد عفيفي الذين أفر إلى كتاباتهم التي تركوها في كل مرة يطل وجه الحياة بكل رسمية وصلف.

وفي الفكر كتّاب كثر ربما نتحدث عنهم في قابل الأيام.

هل هذا كل شيء في عالمي؟

طبعا لا، فأنا لا أقوم بعملية جرد لمحتوياته، بل مجرد دردشة حوله،
ما تزال هناك ذكريات الماضي البعيد والكثير الكثير من قصص مختزنة لم تنتهِ.

لذا خذوا لكم الثورات والحروب والدمار في كل مكان على هذه الخارطة الملتهبة واتركوا لي عالمي،

لحظة:
لا تنسوا أن تأخذوا معكم فيروس كورونا أيضاً! 


***

نشر المقال في موقع المحطة بتاريخ 14 يناير 2021م 

 

    اضف تعليقاً عبر:

  • blogger
  • disqus
design by : bloggerinarab, powered by : blogger
كافة الحقوق محفوظة لمدونة عيون المعرفة 2014 - 2015