»نشرت فى : الأحد، 14 نوفمبر 2010»بواسطة : »ليست هناك تعليقات

إبن آدم والكنز

(قراءة في فلسفة الفراغ الحضاري للمسلمين، وضرورة النهوض الحضاري)

يعيش الإنسان حياته الدنيا، وهو في بحث دائم عن الفكرة الأفضل، بين مجموعة كبيرة من الخيارات المتاحة، وغالبا ما يكون دافع المنفعة عنده، أكثر تأثيرا من الدافع الفلسفي (الفكري) أو الأخلاقي، ولهذا يلتقي الإنسان في طريقه الطويل، مجموعة مختلفة من البدائل لكل خيار، وعليه أن يُعمل قلبه وعقله، وأن يجد ويجتهد حتى يكتشف نفسه ويكتشف أفضل الخيارات، وأقربها إلى ما يسمونه كبد الحقيقة، ورغم أن عدد كبير من الناس، في مختلف الأزمنة، يعلنون كل يوم،

أنهم قد توصلوا إلى الصيغة النهائية لإدارة حياتهم، وتحقيق مصيرهم، رغم كل هذا القتال الدائم في جبهات تحقيق الذات، والذي نلمحه في القرآن ـ سورة الروم، بقوله تعالى: كل حزب بما لديهم فرحون، رغم كل ذلك، إلا أن المتفحص لسيرة عظماء التأريخ المادي، على الأقل، يكتشف هذه الدرجة الكبرى من الحيرة، التي تكتنف الجميع، صحيح أنها تكون بنسب مختلفة، ولكنها موجودة، فالإنسان كائن التغيير، وكائن البحث الدائم، وعلة القلق السرمدي، وإذا سلمنا باختلاف نسبة هذا القلق، جموحا وحجوما، فإن عظماء الإسلام واجهوا هذه الحيرة، رغم أنهم يبدءون دائما من اكتشاف أصيل للحقيقة المطلقة، المتمثلة في الإسلام دين الفطرة، إلا أن الفاعلية الدنيوية تعوزهم في أوقات كثيرة، وهذا الذي جعل عمر بن الخطاب يقول ذات يوم: لو استقدمت من أمري ما استدبرت ...الخ، في دلالة على القلق الدائم للبحث عن أفضل البدائل، وأنجح الحلول، لمتطلبات الحياة اليومية، وكل إنسان يدخل في هذه الدائرة، ولكن مساحة الدائرة تختلف باختلاف الناس، ففي الوقت التي كانت دائرة الفاروق رضي الله عنه، تشمل أمة الإسلام أفرادا وجماعات، شعائر وعبادات، أفكارا وأشياء، تصبح دائرة التساؤل بالنسبة للفرد الغربي، التائه في درب البحث عن السعادة، أحيانا، دائرة ضيقة قد لا تتجاوز حقنة مخدر، أو رضا امرأة، أو مبلغا من المال، ولكن هذا لا ينفي البحث الدائم، لأي إنسان، عن الأفكار النافعة، أصاب أو أخطأ، مهما كانت فكرته المرجعية الكبرى، هذه الأفكار الكلية أو الجزئية تتحول إلى قناعات يومية، يمارس الإنسان وفقها حياته، ويتقدم به العمر، وهو إما على منظومة ثابتة من الأفكار، وهذا حال عامة الناس، أو يكون في آخر العمر، قد كون أفكاره الذاتية، سواء النظري منها أو التطبيقي، وكثيرا ما ينجح الإنسان في أفكار التطبيق الآني، المادي، ويعوزه النجاح في الفكر القيمي الإنساني، كما سيتضح معنا.
أصحاب الفكرة الأصيلة إذا، يبحثون عن أفكار الفاعلية الدنيوية، ضمن خيارات الحياة اليومية، المتقلبة، والتي لا تدوم على حال، وهناك من ذوي الأفكار الوضعية، من يبدأ بحثهم عن فكرة أصيلة ابتداء، أو عن تأصيل لفكرتهم الوضعية، لاحظوا معي أن الفكرة الأصيلة، تكون أكثر قوة وثباتا أمام تغير الزمان والمكان، ولا يمكن لفكرة أصيلة في هذه الدنيا أن تكون منفصلة عن فطرة الإنسان، وعلى هذا فخالق هذه الفطرة، هو المصدر الأصيل، الذي يجب على الإنسان أن يستقي منه الأفكار الأصيلة، التي تخلق فيما بعد حياة ناجحة للإنسان، في الدنيا أولا، وفي حياته الأخرى مرة أخرى، ولقد خلق الله سبحانه وتعالى الفطرة الإنسانية، بصورة تجعلها قابلة للتعاطي مع سنن الكون، وتتكامل معها، ولكن وفق سعي وتدقيق، إذ أن الكتب السماوية اكتفت بالعناوين الرئيسية لهذا السعي، تاركة للفطرة الموجودة مسبقا، في الإنسان، فرصة اكتشاف كثير من الآليات، للتفاعل والتكامل والتناسق مع فطرة الكون، أي القوانين والسنن الكونية بشقيها المادي والإنساني.
الحاصل في هذا الزمان، أن أصحاب الأفكار المادية، التي تتباين عن أصالة الفطرة بكثير من منطلقاتها، قد تفوقوا في صناعة الدنيا، بصورة كبيرة تجعلهم يظنون أن الحياة لا تنتهي، ويقول فعلهم اليومي، أنهم مخلدون، وكذلك فكرتهم السائدة، عن الحياة والإنسان، وهي فكرة تسود العالم بشكل ضمني، فلا تجد من يعترف بها صراحة، من الشعوب المستضعفة، إلا في حالات انفعالية معينة، وهذا قد شاهدناه ينعكس في بعض الآراء حول القضية الفلسطينية، في أزماتها الأخيرة، بطريقة لم يكن يتصورها أكثر الناس تعقلا، وقد أدى هذا الانتشار الصامت على قلته، أن زعم بعض فلاسفة الغرب أن التأريخ قد انتهى، فكتب هينتنجتون Huntington كتابه الشهير: نهاية التأريخ، في خطاب متغطرس عن فكرته المادية التي تسود العالم، هي فكرة الحضارة الخاتمة!، وأن الحضارات المنافسة، حين تحاول منافستها، لن يتسنى لها النجاح دون اعتناق تلك الأيديولوجية الحديثة، وهذا يذكرنا بما نعرفه عن الحضارة الإسلامية، وكيف أن حضارة الغرب نفسها، لم تقم إلا بعد استفادة كبيرة من معارف وقيم الحضارة الإسلامية، ونشير هنا إلى كون حضارتي اليونان والرومان، لم تصل معارفها إلى أوروبا إلا عن طريق علماء المسلمين، في تشابه مع فكرة هينتنجتون، مع الفارق الجوهري، أن الأخير يصر على جزئية تكامل القيم والأخلاقيات مع المنتج المادي، رغم أن التركيز الغربي في بداية حضارته، كان على الجانب المادي التقني فقط، ثقافة وتطبيقا. هذا الغرور المادي، المنبثق من الحضارة المادية، لا ينسينا أنها قامت كنتيجة للفهم الظاهري، للأفكار التطبيقية الأصيلة التي تقوم بها أي حضارة، كسنة كونية تتكامل مع الفطرة الإنسانية، بمعنى أن حضارة الغرب، حين بدأت، وحتى تستمر، قد استندت إلى جملة من الأفكار والتطبيقات، هذه الأفكار كانت ناجحة، وقد جلبت لهم الكثير من الخير، ولكنها كانت قاصرة عن الوصول بهم إلى قمم هرم الإنسانية، الذي وصلت إليه حضارة المسلمين، والتي تمثلت بحزمة من القيم والقناعات الكامنة، التي لم يزل بعضها سائدا حتى الآن، عند المسلمين أو عند الغرب، وإن كنا كمسلمين قد فرطنا بجملة كبيرة منها، ولقد استفاد الغرب بكل انتهازية وموضوعية من القيم التطبيقية، كالمنطق العملي وتقدير العلم والسببية وغيرها، وهذه القيم المادية قد قادتهم إلى قيم إنسانية معينة، كالحرية والتكامل الإنساني والعدالة الاجتماعية، ولكن هذه القيم الإنسانية غير المادية كانت قاصرة جدا، فلم يعد الغربي يبحث عن الحرية إلا لمصلحة قومه، بني جلدته، ولا يرضخ للتكامل الإنساني إلا وفق البعد البرجماتي، النفعي، وهذا ما نجده في القرآن ـ سورة الروم، بقوله تعالى: يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون، إن الأخذ بظاهر الحياة الدنيا، قد أوصل الإنسان الغربي، عموما، إلى الظن بأنه قد وضع البصمة الخاتمة في تأريخ البشرية، وأن حضارته قد أنهت كل حضارات الإنسان، وأن أي حضارة ترغب في الاستمرار والتعايش معه، عليها أن تتبنى قيمه (المادية)، كحزمة من التصورات والقناعات والتطبيقات والقوانين، وأن هذا هو مصير الإنسانية إلى ما لا نهاية، ولنلاحظ أن هذا الكلام حين قاله المسلمون، قد تحقق بالفعل، فرحمة العالمين، محمد صلى الله عليه وسلم، قد وصلت أفكاره وآثاره إلى الشرق والغرب، وقد عرفنا على مر الـتأريخ، كيف أن كل حضارات العالم تقوم، وتستمر، بالمال السلاح، وكيف أن الإسلام يتجدد في كل زمان، بمختلف الأصقاع والأشخاص، وأنه كان الفكرة الأصيلة التي خضعت لها البشرية في حضاراتها الحالية، فقوانينها وتطلعاتها وأساليبها، استمدت وتستمد من الحضارة الإسلامية، كثيرا من عناصر القوة، صراحة أو ضمنيا، إن صوت المنطق يقول، أن الدين الذي يتحرك بقوته الكامنة، والذي يغزوا العالم شرقا وغربا، والذي يتعرض في موطنه لكل حملات التشكيك والتزييف والقمع، وبكل الأساليب، هذا الدين، الذي يقدم أهله عنه، في أحيان كثيرة، صورة مشوهة وناقصة، يعرف كيف يقنع، ويتحدى ويفرض نفسه، في مقابل أفكار ونظريات مدعومة بالمال والسياسة والاقتصاد، ولديها جملة من التسهيلات، بالمعنى التجاري، والإغراءات المادية، ومع ذلك مازالت المنافسة، كما يزعم لنا، متكافئة، أي تكافئ في ظل هذا الخلل المادي الهائل؟.
نخلص مما سبق، أن ابن آدم في سعيه الحثيث، للبحث عن المصلحة، مجسدة بالمال والراحة والسعادة، ليومه ولمستقبل أيامه، متخذا درب العلم والصناعة، ضمن حزمة كبيرة من الوسائل اصطلح على تسميتها بالحضارة، هذا الإنسان استطاع في العصر الحديث، ممثلا بحضارة الغرب الكاسحة، وبحضارات الشرق الراغبة في المنافسة، قد استطاع أن يقدم للتأريخ فاعلية حضارية قوية، إذا ما نظرنا للنتائج، ولكن هذه الفاعلية ووفقا للنتائج أيضا، تفتقد لكثير من القيم والمثل والأخلاقيات، التي نستطيع أن نصف الإنسان وفقها أنه إنسان، وهذا ما يسميه على عزت بيجوفتش بالثقافة، حيث يعرّف الحضارة في كتابه الإسلام بين الشرق والغرب، بأنها (مدنية) زائدا (ثقافة)، وعلى هذا الاعتبار فحضارة القرن الحادي والعشرين، شرقا وغربا، هي مدنية لا أكثر، ولكنها مدنية قاسية ضاع فيها الإنسان، وتحسر فيها عقلاؤها على مستقبل الأجيال القادمة، بيئة واقتصادا ومواردا وقيما، حتى صار من يراهن على المستقبل أحد شخصين، إما مكابر يفترض مثالية في أدوات أثبتت قسوتها وبشاعتها، وإما مثالي يزعم إمتلاك قوة كونية، ليس بالضرورة أن تكون قوة مادية، هو مثالي لأنه يتوقع التغيير النموذجي الهائل، ويثق فيه، قبل أن ينهار مستقبل البشرية، ويتحول تأريخها إلى نهايته بالفعل، ولكنها نهاية حتمية، مأساوية، قائمة على معطيات الحاضر، بتسلط قواه وركونها إلى علمها وخبرتها المادية الناقصة، الأنانية، ذات النزعة المعادية للإنسانية كما يصفها عبدالوهاب المسيري رحمه الله.
ستظل البشرية حتى آخر فرد فيها، تبحث عن الأفكار الشاملة، التي تجمع بين الأصالة والفاعلية، ففي الأصالة تجد البشرية الاستقرار، والاستمرار، في تكاملها مع قوانين الكون، وفي الفاعلية تجد البشرية النجاح والواقعية، والبعد عن الطوباية التي نعرف دائما عدم تحققها، ولكن معرفتنا تلك لا تعني الاستسلام لما يسمونه نقيض الطوبيا distopia، والتي تسعى لتحويل العالم إلى نموذج طبقتي السيد والعبد، بصورة مضمرة بالطبع، ولكنها تمارس كل أدوات الانحياز والغبن تلك، التي عفا عنها الزمن، ولدينا كمسلمين جملة كبيرة من الموارد العظيمة، التي تحتوي على أفكار لا نشك، نحن على الأقل، بأصالتها، ولكن ما ينقصها بالفعل، هو الفاعلية التي تتحول أمامها كل النظم والأفكار المضادة، من أدوات تحدي وقمع، إلى أقزام تتصارع مع تحدياتها الخادعة، هذه الفاعلية لن نحصدها بدون استمداد أدوات الأصالة الكامنة في نصوص القرآن والسنة، ولكن بفهم ووعي يجعل من رسالتنا رسالة رحمة حقيقية للعالم، صحيح أن عددا من الخطوات قد قطعت في هذا السبيل، ولكنها، بحكم النتائج أيضا، خطوات خجول، لا تستخدم من الإيمان والثقة، إلا بقدر ما يعطيها العالم المادي من أدوات، وهذا يعني أنها مازالت تستهلك دائرة الأصالة، دون أن تنطلق إلى فضاء الفاعلية.
لا جدال أن الإنسانية باتت تعرف أن سعادتها، في هذا الزمان، ترتبط بمنظومة القيم التي تحكمها، أقصد تعتنقها، ولكنها تعتنق عادة قناعات ضحلة، هي ما يبدو أن فيه مصلحة قريبة، أو سعادة آنية، وهذا في نظري، يدلل على أن إبن آدم عموما، والمسلم بوضع خاص، ينام على كنز ثمين، يمكن له بالكثير من الثقة، التي يسمونها أيضا، الإيمان، والبحث والتجربة أن ينطلق من شرنقة الخمود والتيه، ويحلق في عالم من المثل، ولكنه عالم حقيقي، لم يفكر فيه أفلاطون، ولم يتصوره، ولا يحتاج من الإنسان إلا أن يثق بغريزة الخوف من الكارثة، التي تنتابنا كل يوم، ولن نتخلص منها بزعم عدم شعورنا بها، وهي كارثة ستطال الجميع إن قصروا في البحث عن الكنز، فلا فرق وقت الأعاصير بين سيد وعبد، ولا بين غني وفقير، حتى لو فرت (الفئران) كديدنها، فهي إلى أحضان الكارثة، أول الواصلين.

    اضف تعليقاً عبر:

  • blogger
  • disqus
design by : bloggerinarab, powered by : blogger
كافة الحقوق محفوظة لمدونة عيون المعرفة 2014 - 2015