»نشرت فى : الأحد، 21 نوفمبر 2010»بواسطة : »ليست هناك تعليقات

السامرائي إبداع بلا حدود

.. الدكتور فاضل صالح السامرائي عرفه المشاهد العربي من خلال برنامجه الشهير (لمسات بيانية) الذي يبث من قناة الشارقة الفضائية والبرنامج يحمل عنوان احد كتب الدكتور السامرائي هذه الكتب نتاج رحلته الإيمانية التي قطعها الدكتور السامرائي منذ ستينات القرن الماضي مبحرا في عالم اللغة العربية - تخصصه الأكاديمي -  ابتداء من( الجملة العربية تأليفها وأقسامها) انتهاء ب(على طريق التفسير البياني) مرورا ب( التعبير القرآني ) و( بلاغة الكلمة) و(لمسات بيانية) و(معاني الأبنية) و(معاني النحو) وغيرها في رحلة شائقة مع القران ولفظه و تعابيره ..فماذا قدّم الدكتور السامرائي في هذه الرحلة للقران واللغة ؟
 
بداية الرحلة
يقول الدكتور السامرائي في  بداية رحلته "كنت أسمع من يقول : إن القران معجز وإنه أعلى كلام وانه لا يمكن مجاراته أو مداناته ..وكنت ارى في هذا غلوا ومبالغة دفع القائلين به حماسهم الديني وتعصبهم للعقيدة التي يحملونها وكنت أقرأ التعليلات التي يستدل بها أصحابها على سمو هذا التعبير كارتباط الايات ببعضها وارتباط فواتح السور بخواتيمها وارتباط السور ببعضها البعض واختيار الالفاظ دون مرادفاتها ونحو ذلك فلا أراها علمية واجد كثيرا منها متكلفا وكنت أقول إنه لو كان التعبير غير ذلك لعللوه ايضا فإن الانسان لا يعدم تعليلا لما يريد"(1) لكن تخصصه الاكاديمي – كحامل درجة دكتوراه في اللغة العربية – دفعه لأن يدرس النص القرآني بنفسه وبدأ في الفحص والتدقيق فحصا دقيقا فخلص الدكتور السامرائي الى أن التعبير القرآني تعبير فني مقصود " حُسب لكل كلمة فيه حسابها بل لكل حرف بل لكل حركة "(2) فانتهى الى مسلمة لا جدال فيها "وهي ان القران لا يمكن ان يكون من كلام البشر وان الخلق أولهم وآخرهم لو اجتمعوا على ان يفعلوا مثل ذلك ما قدروا ولا قاربوا"(3) فجاءت كتبه توضيحا للعامة قبل الخاصة لهذه المسلمة التي خلص اليها " لان الناس ليس لديهم اطلاع على المسلمات اللغوية وليس لديهم معرفة بأحكام اللغة وأسرارها ومن الصعب  ان يهتدي هؤلاء الى امثال هذه المواطن من غير دليل يأخذ بأيديهم يدلّهم على موطن الفن والجمال ويبصرهم بأسرار التعبير ويوضح ذلك بامثلة يعونها ويفهمونها "(4) فكانت كتب الدكتور السامرائي ذلك الدليل ..
لكن على ما اعتمد الدكتور السامرائي لذلك التبسيط والتطويع من اصول وقواعد؟

مدد التراث
.. لا ريب ان كتب التراث التي حاولت سبر اغوار التعبير القراني  هي الزاد الأساسي لأي قارئ ومتبحر في لغة القران الكريم فكان للدكتور السامرائي نصيب كبير منها وقد اجاب مرة عن مراجعه بانها لا تتعدى كتب علوم القران من البرهان للزركشي والاتقان للسيوطي وبدائع الفوائد لابن القيم وكتب المتشابهات كملاك التأويل والبرهان في متشابه القران ودرة التنزيل الى جانب عدد من كتب التفسير ولعل اهمها الكشاف للزمخشري (رسالة الدكتوراه للسامرائي  بعنوان الدراسات النحوية واللغوية عند الزمخشري عام 1968م)  وتفسير الرازي وغيرها من التفاسير ، وكثيرا ما يستشهد بقول الرازي " أن القران كالسورة الواحدة لاتصاله بعضه ببعض بل هو كالآية الواحدة"(5).ومن هنا بدأ يرسي قواعده في تعليل أساليب البلاغة القرآنية من تقديم وتأخير وجمع وافراد...وغيرها فما هذه القواعد؟

تأصيل السياق
يعول الدكتور السامرائي بكثرة على اثر السياق في اختيار اللفظ القرآني في ذلك الموضع عن غيره والمجيء بذلك الأسلوب عن غيره اذ يحتل السياق الجزء الاكبر في اغلب كتبه وتعليلاته ولست مبالغا اذا قلت ان الدكتور السامرائي قد اعطى للسياق الصدارة في كل شيء ونجد هذا في مواضع شتى من كتبه ومن هذه المواضع:-
1/تعليل البنية: وهو استعمال الفعل والاسم " فمن ذلك قوله تعالى(ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ) الانعام 131 وقوله (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) هود11 فقد جاء في  الآية الأولى بالصيغة الاسمية (مهلك) والثانية بالصيغة الفعلية ( ليهلك) وذلك ان الآية الأولى في سياق مشهد من مشاهد يوم القيامة عما كان في الدنيا في حين الكلام في سورة هود على هذه الحياة الدنيا وشؤونها وذكر سنة الله في الامم"(6) ثم ذهب يقارن بين ايات كل سياق ليثبت ما ذهب اليه مسبقا.
ومن ذلك تعليل التقديم والتأخير والذكر والحذف والتوكيد والتشابه والاختلاف وفواصل الايات وغيرها ويمكن مراجعة ذلك في كتابه الشهير التعبير القراني (7) بل وسار على هذا الدرب في كتبه الاخرى كمعاني الابنية ولمسات بيانية .
2/ المقارنة بين القصص القرانية : يعقد الدكتور السامرائي جدول مقارنة بين مواضع القصص القرآنية المتشابهة في محاولة لتقريب المواضع المشتركة في القصة الواحدة والمذكورة في مواضع متفرقة لانه يرى أن القران"لا يذكر القصة على صورة واحدة بل يذكر في موطن ما يطوى ذكره في موطن آخر ويفصّل في موطن ما يوجزه في موطن آخر ويقدم في موطن ما يؤخره في موطن آخر بل تراه أحيانا يغير في التعبيرات ونظم الكلام تغييرا لا يخل بالمعنى كل ذلك يفعله حسب ما يقتضيه السياق وما يتطلبه المقام وذلك في حشد فني عظيم"(8) وقد جاء في كتابه التعبير القراني مقارنة لقصة أبينا آدم عليه السلام في سورتي البقرة والاعراف فيرى الدكتور السامرائي في سورة البقرة أن القصة " مبنية على هذين الركنين : تكريم آدم وتكريم العلم وكل ما فيها من ألفاظ ومواقف انما هي مبنية على هذا التكريم  في حين ان القصة نفسها في سورة الاعراف جاءت " في سياق العقوبات واهلاك الامم الظالمة من بني آدم وفي سياق غضب الرب سبحانه ولذلك بنيت كل قصة على ما جاء في سياقها"(9) ثم ذهب الى عقد المقارنة المطولة بين ايات كل سورة للقصة نفسها ومثل ذلك نفس القصة بين سورتي ص والحجر ومن ثم قصة موسى عليه السلام في سورتي البقرة والاعراف ومن ثم سورتي الاعراف والشعراء .
كل هذا في مقارنة مبتكرة ربما استسقى فكرتها من كتب التشابهات كدرة التنزيل او البرهان للكرماني لكن الدكتور السامرائي وسّع الامر فشمل اغلب الايات المتشابهات في القران الكريم سواء في القصة او في غير ذلك بتوظيف النحو وأدواته و السياق جوهر هذه المقارنات ولعل فصل السمة التعبيرية للسياق في كتاب التعبير ألقراني  يبدي الامر هذا بوضوح(10).

الاداة النحوية والصرفية
لعل استخدام النحو وأدواته يعود لتبحّر الدكتور السامرائي في النحو وكيف لا وهو صاحب كتاب ( معاني النحو) في اربعة اجزاء شرح فيه معنى النحو لا قواعده مستعينا بآراء البلاغيين الذين سبقوه ولعل نظرية النظم للجرجاني كانت حاضرة بقوة في كتاب الدكتور السامرائي فكانت الدلالات البلاغية للأساليب النحوية وهو امر لم يسبقه احد الى مثل هذا التنظير فأعطى لقارئ الكتاب ثروة كبير حول أدوات النحو ووظائفها البلاغية . ومن ذلك المقارنة بين قوله تعالى (وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا  قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) الجمعة7 وقوله تعالى (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ )البقرة 95 " فالكلام في الاية الثانية على الاخرة (قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ) والدار الاخرة استقبال فنفى ب(لن) اذ هو حرف خاص بالاستقبال واما الكلام في الاية الاولى  فهو عام لا يختص بزمن دون زمن (إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ) فهذا امر مطلق فنفى ب(لا) وهو حرف يفيد الاطلاق والعموم التي حرف اطلاق وهو الالف وفي اللاية الثانية للاستقبال وهو زمن مقيد نفاه ب(لن) التي اخرها حرف مقيد وهو النون الساكنة وهو تناظر فني جميل"(11) وغيرها من المواضع والتعاملات مع الاداة النحوية ..
اما الابنية فقد افرد لها الدكتور السامرائي كتابا هو (معاني الابنية في العربية) وسبب ذلك كما يقول " أن اللغويين القدامى و يا للأسف لم يولوه ما يستحق من الاهمية فإنهم  نظروا بصورة خاصة في شروط الصيغ ومقيسها ومسموعها وقعدّوا لذلك القواعد اما مسألة المعنى فانهم كانوا يمرون بها عرضا وكانت دراساتهم في الاكثر منصبة على كيفية صوغ البناء وهل هو مسموع او مقيس مجردا من المعنى "(12)
فجاء الكتاب مناقشا لأشهر هذه الابنية كالاسم والفعل والمصادر واسمي الزمان والمكان واسمي الفاعل والمفعول ومبالغاتهما وذلك الجموع وانواعها وغير ذلك ، اما كيفية ادراك الدكتور السامرائي الى المعنى المفقود فعن " طريق النظر والموازنة بين النصوص في استعمال الصيغ وهذا النظر قائم على الاستعمال القرآني اولا وقائم على دراسة الضوابط العامة والاصول التي وصفها علماء اللغة وعلى المعاني التي يفسرون بها المفردات و الابنية"(13) ومن ذلك استعمال " الإخوة والإخوان فالإخوة جمع قلة والاخوان جمع كثرة واكثر ما تستعمل الاخوة في اخوة النسب كقوله تعالى(وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ) يوسف 58 وقوله (فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ) النساء11ووردت كلمة ( الاخوان ) في اثنين وعشرين موطنا في كتاب الله منها ما هو بمعنى الاصدقاء كقوله تعالى(وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ) ق13 وقوله (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا) الحجر47ومنها ماهو بمعنى النسب نحو قوله تعالى (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ ) النور 31 و(لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ ) الاحزاب 55و(وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ) النور 61 وسبب ذلك ان كل ما ورد من (اخوان) بمعنى الاخ في النسب فالخطاب فيه لعموم المؤمنين وليس لواحد منهم فاقتضى المقام الكثرة فجاء بصيغة (اخوان) الدالة على الكثرة بدل(اخوة) والتي هي للقلة تدل"(14) .
ومن ذلك ايضا " ضُعفاء وضِعاف جمع ضعيف وكبراء وكبار جمع كبير وأشداء وشداد جمع شديد فما الفرق بينهما؟الذي يبدو لي ان (فُعلاء) يكاد يختص بالامور المعنوية و(فِعالا) بالامور المادية فالثقلاء لمن فيهم ثقل الروح والثقال للثقل المادي ..فالكبراء هم السادة والرؤساء والكبار كبار الاجسام والاعمار ، والضعفاء هم المستضعفون من الاتباع والعوام وهو من الضعف المعنوي اما الضعاف فللضعف المادي ومنه قوله تعالى (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ) الفتح29 فقابل بين الشدة والرحمة وهما امران معنويان وقال تعالى(عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ) التحريم6 والذي يبدو انهم شداد الاجسام ضخامها كما قال تعالى (وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا)النبأ12"(15).
هذا هو ابداع الدكتور السامرائي مع هذا الكتاب العزيز رحلة عمر شائقة استخرج هذا العالم من القران كنوز عزت عن كثير ولفت انظار الناس الى بلاغة القران الكريم في زمان انشغل الناس بزخرفة المصحف دون ادراك مدلولات اياته وحسب الدكتور السامرائي  هذا الجهد...

الهوامش :
1/ التعبير القراني للدكتور فاضل السامرائي ص7
2/نفسه
3/نفسه ص7
4/نفسه
5/ نفسه ص19
6/ نفسه ص24-25
7/انظر التعبير القراني الصفحات 74و125و273و217و237
8/ التعبير القراني ص 284
9/ نفسه ص287-288
10/نفسه ص238-239
11/نفسه ص202
12/معاني الأبنية في العربية للدكتور فاضل السامرائي ص5-7
13/نفسه
14/نفسه ص 120-121
15/نفسه ص 146-147 بتصرف
***

ملاحظة :

نشر هذا المقال في صحيفة الجمهورية (اليمنية) بتاريخ 13سبتمبر2009م 

    اضف تعليقاً عبر:

  • blogger
  • disqus
design by : bloggerinarab, powered by : blogger
كافة الحقوق محفوظة لمدونة عيون المعرفة 2014 - 2015