»نشرت فى : الأربعاء، 24 نوفمبر 2010»بواسطة : »ليست هناك تعليقات

الفقيه السلطان.. وفتاوى عابرة للقارات

منذ أن ظهرت علينا الفضائيات بأنوارها (لباهرة) اتخذت من برامج الإفتاء معلما لإكمال (برستيجها ) اللائق على سبيل التقليد او لإضفاء ( النكهة ) الدينية على برامجها المتنوعة - كل على حسب نيته - وتصدر فقهاؤنا العظام لأمور الإفتاء الفضائي وانهالت الفتاوى المتنوعة لأمور الدنيا والدين واستنفرت الفضائيات المشاهدين لإرسال تساؤلاتهم (المحيرة) على الهواء مباشرة او بالبريد الالكتروني او الفاكس المهم مادة للعرض والسلام . وبدأ عصر الفتاوى العابرة للقارات ..
المفتي يقيم في إقليم جغرافي معين يفتي لجماهير المعمورة من المشرق الى المغرب وربما لديه الاستعداد ان يفتي لسكان المريخ لو طلبوه الفتوى؟!! لا يهم فالفتاوى (معلبات) حسب الطلب ودون تواريخ انتهاء والبركة فيما تركة علمائنا الأوائل -رحمهم الله - من مصنفات جاهزة يستخرج منها فقيهنا المعاصر ما لذ وطاب من فتاوى ابتداء من أحكام الطهارة حتى حكم الميت على سطح القمر؟!!!
العصا الغليظة
ما أدري وأنا أرى ركام الفتاوى في كل الوسائل المرئية والمسموعة والمقروءة ايضاً احس من ركاكة الاسئلة المنهالة على الفقيه القابع أمام الشاشة ان الإسلام لم يدخل بلداننا الا قبل شهر ؟!! وان الرسول (ص) لم يغادر دنيانا منذ ألف وأربعمائة عام ؟! هذا ما توحي به اسئلة المشاهدين (المسلمين) الذين يبدو انهم حتى اليوم لم يفقهوا في الدين وعن الدين شيئاً وإلا لماذا كل هذه الأسئلة ؟!!
أقول أجدادنا كانوا (مساكين) للغاية فلم تتاح لهم الفرصة لينعموا بهذا الكرم الحاتمي من فتاوى على الهواء والماء ايضا ؟!!! ام انهم كانوا يمارسون دينهم الاسلامي بسلاسة وهم في غنى عن كل هذه التساؤلات ؟ او لنقل زادت تعقيدات العصر الحاضر فاحتجنا لهذا كله ...الله يكن في عوننا ؟! يجب ان نسأل الفقيه المفتي في كل صغيرة وكبيرة لأننا أدخلناه - أي الفقيه- في كل شئون حياتنا ما علمنا منها وما لم نعلم بل وما سنعلم ؟!!!
أصبح - فضيلته - يحدد حجم لباسنا ؟!
ولون حجاب نسائنا؟!
وما الورِدْ الذي يجب ان نقوله صباحاً ؟!
وما يجب علينا ان نعمله عند السفر ؟!
وما نأكله ؟ وما نشربه ؟ حتى لا نخالف السنة ؟
إلى غيرها من دقائق الامور ...
أهذا منتهى الافتاء في هذا الزمان ؟!! لا اعتقد ان هذا يليق بالأفاضل العلماء ولا بنا نحن العوام..
فهل رجال الفتوى لديهم كل هذا الوقت للإجابة عن كل تساؤلاتنا ؟
لو ُقدّر لي ولكم ان نتخيل عهد المصطفى (ص) مع اصحابه الكرام وهم حديثو العهد بالدين ولنفترض ان المجتمع - آنذاك - كان له الإمكانيات المتوفرة في عصرنا ماذا كان شكل الاسئلة التي سيوجهها المسلمون الجدد للمصطفى عليه السلام ؟
واعتقد ان كثافة الاسئلة -التي أتخيلها - كانت ُتغني عن جهود العلماء الذين جاءوا بعد ذلك لتقنين نصوص الشرع الحنيف ..لكن الواقع شيء آخر جدا..
لم يتنطع الصحابة في تساؤلاتهم عن الاسلام وسلوكياته كما نفعل اليوم - ويسايرنا في ذلك بعض مفتينا - لأنهم فهموا روح الشريعة النابع من نصوص شرعية حية التطبيق بسيطة الفهم وليست بمثل ما عقّدناها اليوم على أنفسنا فالنصوص هي نفس النصوص لكن النفوس والقلوب لناس في آخر الزمان...
ودعوني أسجّل ظاهرة ايجابية في فتاوى اليوم لبرنامج (يسألونك) الذي تبثه قناة الرسالة الفضائية في حوار مسجل مع الدكتور / علي جمعة مفتي الديار المصرية الحالي ..هذا البرنامج الذي اعاد للفتوى كرامتها وللدين قيمته الراقية من خلال مناقشة رصينة لمواضيع متكاملة من فقهنا الاسلامي العظيم بعقل ذكي ورأي حصيف وهنا يكمن الجواب عن مَنْ يسال لماذا حصلت قناة الرسالة على شهادة الـ ISO العالمية - رغم حداثة ظهورها - ولم تحصل على نفس الشهادة فضائيات موجودة فوق رؤوسنا منذ عهد الديناصورات؟!!!!
الناطق الرسمي
أما مسألة الفتوى فدعوني اسجّل عدة نقاط :-
(أجرأكم على الفتوى أجرأكم على النار) هذا مبدأ موجود في أدبياتنا المتوارثة فما بال اليوم اصبح الكل مجترأ - بعلم او بدون علم - على الفتوى ؟ ام صارت الفتوى مالا سايبا لمن هب ودب ؟ على حد تعبير الشيخ محمد الغزالي رحمه الله (إنهم يطلبون العلم يوم السبت، ويدرسونه يوم الأحد، ويعلمون أساتذة له يوم الاثنين. أما يوم الثلاثاء فيطاولون الأئمة الكبار ويقولون: نحن رجال وهم رجال!!.) أم كثر أهل الفتوى لما وجدوه من المكانة لتي ينالها المفتي او الفقيه بين الناس؟!
الفتوى - على حد علمي - بنت الزمان والمكان ولكل فتوى ظروفها وملابساتها التي يجب على المفتي مراعاتها عند إصدار فتواه فكيف لمفتي ان يفتي كل أرجاء المعمورة من على كرسيه في دولته التي هو فيها ؟ أم يجب ان يكون لكل بلاد مفتيها بل لكل مدينة مفتيها أدرى من غيره بظروف المكان والزمان..وإن كان من فتوى عامة - كما في الفضائيات - فلماذا لا تكون في أمور الأمة العامة وما مسألة ثبوت ظهور هلال رمضان أو العيد عنا ببعيد فكم نختلف كل عام في هذه المسألة رغم وجود التقنيات الحديثة من تلسكوبات وآلات رصد وخلافه ؟ فأين فتاوى الفضائيات عند هذه النقطة؟
هل يجب على الناس ان يرجعوا الى المفتي في كل شيء؟ ان امور الطهارة والصلاة والصيام وما شابهها نمارسها كل يوم وكل شهر صوم طيلة اعمارنا منذ بدء التكليف أليس لهذه الممارسة المستمرة من ثمار علينا فندرك خصائص هذه الامور ؟ أليس المفترض على كل مسلم ان يعلم من الفقه اشياء بالضرورة خصوصا مع ما هو ملتصق به طيلة حياته من عبادات ومعاملات كالصلاة والطهارة على سبيل المثال ؟!! فلا نشغل فقهاءنا الكرام بمثل هذه الامور ام يجب ان نرجع للفقيه في كل صغيرة وكبيرة مهما دنى شأنها فلا همسة ولا نسمة الا بإذن الفقيه؟!!
لماذا يصمم فقهاؤنا التمركز في احاديثهم حول قضايا قد شبعنا سماعها من تكراراها على آذاننا صبحاً ومساء مثل حكم الاسلام في الغناء وحلق اللحية واطالة الثوب ...الخ وغيرها من امور الدين التي تعتبر مخالفتها غير مخرجة من الملة في حين الناس تهمهم قضايا اكثر حضوراً مثل الجهاد والتكفير والفرقة ...الخ ؟ اعذروني اذا قلت أليس هذا (تسطيح) في الفكر ؟ أم هو تكريس لفكر معين؟ كثير من فقهائنا عندما يصدر فتواه يجعل ما يقوله هو حكم الاسلام فنسمع ( وحكم الاسلام في هذه المسألة كذا وكذا والاسلام يرى في ذلك كذا ..) الى غيرها من الالفاظ اقول ان عبارة هذا حكم الاسلام تجعل من السامع يظن ان مخالفة هذه الفتوى هو خروج عن الاسلام والملة ؟! وهذا ليس صحيحا فما فتوى الفقيه الا تفكيره واجتهاده في النصوص الموجودة بين يديه ولكن هذا الاجتهاد لا يمثل (دينا) بأي حال من الأحوال بل يمثل (فكرا) لمجتهد لا يلزم به أحدا وقد يخالفه عالِم آخر فالمخالفة لهذا(الفكر) لا شيء عليها؟!!
ومن ناحية أخرى فعبارة (هذا حكم الاسلام ) هل تجعل من هذا الفقيه او ذاك هو الناطق الرسمي باسم الاسلام للآخرين؟لا اعتقد ان أحداً يخوّل لنفسه هذا المنصب ؟!! فلماذا كل هذه الهالة ؟
أليس في علمائنا الأوائل خير مثال نقتدي به في ذلك فكل واحد منهم يرى انما يفتي به هو رأيه - وليس رأي الإسلام - فكان الإمام احمد بن حنبل رحمه الله يقول عندما ُيسأل ( يعجبني كذا ولا يعجبني كذا )
أخيراً فتاوى العلماء الأوائل الاصل فيها انها مخصوصة لزمانهم ومكانهم وان تطابقت مع بعض وقائع عصرنا فهي ليست ملزمة وكثرة الاتكال عليها تصنع نوعاً من الجمود لدى عقول المجتهدين من علمائنا الأفاضل ..فهل أغُلق باب الاجتهاد حتى نتكل على تراثنا فقط ؟ أليس لعلمائنا عقول للتعامل مع النصوص لما فيه مصلحة زماننا الذي نعيش فيه ؟ بالطبع لن تعدم الأمة العالم الرباني بل والعلماء الربانيين في كل عصر ..
ولا بأس من الاستفادة مما قدمه أسلافنا - جزاهم الله خيرا - لكن الاتكاء عليهم دون إعمال عقل او نظر يجعل من فقيه هذا العصر موظفاً في مخازن الشيخ ابن تيمية - رحمه الله- وأرشيف فتاويه يستخرج الفتوى المناسبة لينشرها على الملأ ؟ وهذا أمر - وان كان لا غبار عليه- لكن لايستسيغه عاقل رشيد ولو ان الشيخ ابن تيمية نفسه كان موجوداً اليوم لكان أول المستنكرين.  

    اضف تعليقاً عبر:

  • blogger
  • disqus
design by : bloggerinarab, powered by : blogger
كافة الحقوق محفوظة لمدونة عيون المعرفة 2014 - 2015