»نشرت فى : الأحد، 21 نوفمبر 2010»بواسطة : »ليست هناك تعليقات

العقل المعتقـَـل

.. لا شك أن أشرف ما ميّز الله به الإنسان عن غيره من المخلوقات هو ذلك العقل الذي يدرك به الأشياء من حوله وينطلق بواسطته للتفكّر في رحاب الكون الفسيح.
فكان ذلك الإدراك المتبصّر لخفايا الطبيعة التي خلقها الله هو السبيل الذي ُطوع خيرات الطبيعة للإنسان وحوّله من خاضع خائف لتقلبات الطبيعة الى مستثمر لخيراتها، مما جعل الإنسان محترما لعقله وإدراكه بل مزهوا به.
وحين يأتي الدين في الدرب وتظهر جماعة او فئة تدعو لإغفال مكانة هذا العقل بل ومصادرته وتعطيله بدعاوى منسوبة الى الدين وهي في الحقيقة موروثات تراكمت لدينا من قرون غابرة تحت ذريعة حجج هي للسياسة – في زمانها- اقرب منها للدين ثم ورثها فقهاؤنا على انها من الدين ..فكيف يكون الحال حينئذ؟
مناط العقل
دعوى التضارب بين العقل والنقل المزعومة وأن النقل الاولى ولا مجال للعقل فيه هي دعوة تجهيلية أراد اصحابها ان نغلق عقولنا ليستبد بنا الجهل ازاء ديننا ونكن قطيعا تسوقه متنورة العصر الحديث ؟!!!
ولدينا من ما تركه فقهاؤنا العظام ما يدفع هذه الحجة الواهية يقول الامام ابو حامد الغزالي( إن مثال العقل البصر السليم من الافات والاذاء ومثال القران (النقل) الشمس المنتشرة الضياء فالمعرض عن العقل مكتفيا بنور القران مثاله المعترض لنور الشمس مغمضا أجفانه فلا فرق بينه وبيم العميان فالعقل مع الشرع نور على نور) ويقول الشيخ ابن تيمية( إن ما عُرف بصريح العقل لا يتصور ان يعارضه منقول صريح قط.. ونحن نعلم ان الرسل لا يخبرون بمجالات العقول بل يخبرون بمجازات العقول فلا يخبرون بما يعجز العقل عن معرفته).
فالنقل يوضح ما عجز عن معرفته العقل لأن العقل - لمحدودية حواسنا -  لا يدرك العوالم البعيدة عنه بل يتخبط في مجاهلها ويحتاج الى نور يرشده وكان هذا النور هو النقل ..والعقل بدوره يتفهم النقل أما من يظن  ان نصوص النقل فوق مدارك العقل فدعوني أسأل لمن جاءت هذه النصوص أليست لبشر يمشون على الارض ؟!
فهل سيخاطبهم ربهم بما لا يعرفونه ؟ ألم يرسل لهم رسلا من نفس طينتهم بنفس لسانهم ليبلغوا رسالات ربهم؟ ثم يأتي بعد ذلك قائل ..لا تحكيم للعقل في النقل ؟ و لا اجتهاد مع نص – هكذا بإطلاق العبارة ؟!!

اجتهاد النصوص
( لا اجتهاد مع نص) هذ المقولة شاعت في فقهنا الحديث مما دفعت كثيرين مِن مَن يفهمون النص ( الظاهري) – دون تفصيل او توضح – لترديد هذه المقولة هكذا دون تفهم علاتها و ضوابطها ..فما هو النص الذي لا اجتهاد معه ؟ هل كل النصوص؟
لا اعتقد انها كل نصوص الشرع لان هذا يغلق باب الاجتهاد بل سيجعل ن فقهائنا اليوم مجرد زوار متحف الفقه الإسلامي العظيم يقفون أمام النصوص كوقفة زائر لمتحف تاريخي يتأمل آثارا فرعونية او سبأية دون أن يُبدي الا كلمات الإعجاب ؟!!
فهل يريد الإسلام منا ذلك؟
ام ان إعمال العقل في بعض النصوص غير القطعية والتي تقبل التأويل باختلاف الزمان والمكان والظروف هو الأجدر الذي يعطي لهذا التشريع وتلك النصوص ديمومتها وحيويتها وبقائها حتى يتحقق ان الإسلام صالح لكل زمان زمكان..
اما حجة النص الذي أورده الامام علي بن ابي طالب رضي الله عنه ( لو كان الدين يؤخذ بالرأي لكان مسح باطن الخف أولى من مسح ظاهره)
فدعوني أسأل هل هذا الحكم يشمل كل النصوص ؟
هذا الحكم يخرجنا من جدل الأسئلة لسخيفة على شاكلة :-
-         لماذا نصلي الفجر ركعتين فقط؟
-         لماذا نطوف سبعة أشواط حول الحرم ؟
وغيرها من التساؤلات في الامور التعبدية القطعية التي اوجب الشرع الإتباع فيها دون تساؤل لا طائل منه ..
انا لا اتحدث عن هذه النقطة المفروغ منها انا اتحدث عن التشريع الذي يأتي بجديد ينفع الناس في كل تدبّر وتأمل ..
ودعوني أسال لماذا هنالك جمهور من المفسرين للقران الكريم من زمن عبدالله بن عباس رضي الله عنه الى زمن الامام الشعراوي رحمه الله ؟ مع ان قواعد التفسير واحدة مع كل المفسرين ؟
أليس لكل واحد منهم فهمه اللغوي وذوقه وتدبره مع النص الذي افرز هذا التنوّع الخلاّق في التفاسير التي بين ايدينا؟
دلائل وشهود

في القران الكريم مئات الايات المخاطبة (لعقول) المتلقين وليس ادل على ذلك من فواصل الايات التي ما انفكت مرددة
-         آيَاتٍ لِقَوْمٍ يعقلون
-         وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
-         وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ
-         قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ
-         يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ
وغيرها من الايات ، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم (ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها) ثم تلى اواخر سورة آل عمران (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ...الى اخر السورة.
بل ان القران نفسه الاصل فيه التدبّر مصداقا لقوله تعالى (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) محمد24
وقوله عز من قائل (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) النساء82

وما هي آلة التدبر أليست العقل والادراك ؟
فما لنا أغفلنا كل هذه النصوص ( النقل) التي تدعو الى عمل ( العقل)؟
.. هل كان موقف فرق المتكلمة في مسائل الصفات وخلق القران وغيرها هي الخلفية التاريخية التي دفعت فقهاؤنا الاوائل الى تحجيم دور العقل لأنهم يرون ان اطلاق العنان لهذا العقل هو الذي افرز تلك الاراء؟
اقول الاثر التاريخي لتلك المسائل يجب اخذها على ظروفها ومن كل الجوانب ولنرتجع – او ليراجع فقهاؤنا- دعوى أولئك القوم دون اخذ رواية تاريخية من مصدر واحد فقط لان الامر في خاتمته لنا اليوم روايات تاريخية يلتبس فيها الصدق بالكذب.
ودعونا نفترض مع فقهائنا السابقين ان دعوى المتكلمة مخطئة تماما ولا سبيل لدفع الخطأ عنهم فهل خطأهم كان بسبب تفعيل عقولهم مع النصوص؟
ليكن كذلك فهل يظل هذا الحظر على العقل مستمرا في كل عصور بسبب ذلك الخطأ التاريخي ؟
هل هذا حل ام هروب ؟

بين الرأي والاثر
في الفقه الاسلامي هنالك مدرستان للتعامل مع النصوص مدرسة الاثر (النص) التي لا تحيد عن النص ولا تلجأ للرأي بأي حال الا في ما ندر وهذه الدرسة مثلت ( النقل) بكل مفاهيمه وحمل لوائها الامام احمد بن حنبل رحمه الله الذي كان يقدّم الحديث – ولو كان ضعيفا - على القياس .
اما المدرسة الثانية فهي مدرسة الرأي (القياس) والتي اجازت الى جانب النص الاخذ بالعقل والقياس في حالات عد وضوح النص وعدم قطعيته ومثل هذه المدرسة الامام ابو حنيفة النعمان رحمه الله .
هاتان المدرستان كل واحدة تكمل الاخرى ولا مجال للتفريق بينهما فنحن نحتاج الى  النص الصريح الذي نستند عليه مع اعمال عقل في النص الذي يوسعه ولنا في حادثة صلاة العصر في بني قريضة عظه حيث ان كل فريق من الصحابة مثل مدرسة حول نص النبي (ص) (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة) فمدرسة الاثر اخذت حرفية الحديث فلم تصل العصر الا بعد المغرب في بني قريضة ومدرسة الرأي اخذت روح النص وهو الاستعجال في المسير الى بني قريضة وصلت العصر في وقته وقد اقرّ النبي كلا الفعلين.
وهذا هو المطلوب اليوم في زماننا الذي توسعت فيه متغيرات العصر التي تتطلب فقهاء (متفهمين)  النصوص التشريعية على ما يريده الاسلام لما ينفع الناس لان الشريعة مع ما ينفع الناس ..فليس الفقيه مجرد قرص مضغوط (CD) للمتون الشرعية لا روح له ةلا هو ذلك العقلاني الذي لا ذخيرة معه من نصوص شرعية بل من هذا وذاك واختم بقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله ( ان هذا الدين يحتاج الى قلب تقي وعقل ذكي )
ولله در المتنبي حيث يقول :-
وكم من عائبٍ قولاً صحيحاً ... وآفته من الفهم السقيم
ولكن تأخذ الآذان منه ... على قدر القرائح والعلوم

***

    اضف تعليقاً عبر:

  • blogger
  • disqus
design by : bloggerinarab, powered by : blogger
كافة الحقوق محفوظة لمدونة عيون المعرفة 2014 - 2015