»نشرت فى : السبت، 28 مايو 2011»بواسطة : »ليست هناك تعليقات

تفنيد المرويات عند ابن خلدون

كثيرة هي المرويات التاريخية التي يحفل بها تراثنا العربي والإسلامي ولعل اخطر تلك المرويات التاريخية هي الموجودة في كتب التفسير لما تختص به من قداسة بسبب ارتباطها بالقرآن الكريم..
أما كتب التاريخ فحدّث ولا حرج فما أكثرها عند الطبري والمسعودي وابن الأثير وغيرها من كتب التاريخ التي تكدست داخلها مرويات نقلتها الأجيال كابرا عن كابر حتى وصلت إلينا ، بل وتداخلت تلك المرويات مع الأساطير حتى انك لا تستطيع ان تفرّق بين الأسطورة والتاريخ في تلك الأحداث وما قصص عنترة والزير سالم وأبو زيد الهلالي إلا نموذجا من ذلك...
المشكلة في مرويات التاريخ أن كاتبيها القدامى ما كانوا محققين بل مجرد ناقلين للرواية كما هي – حتى ولو خالفت المعهود- وذلك عندهم من باب أمانة النقل !

فالتمحيص والترشيح لروايات التاريخ لابد منه حتى لا تتعلق الأذهان أو تعوّل على روايات تاريخية وأخبار لا أصل لها و لا جذر لمجرد ان ذكرها الكاتب الفلاني أو المؤرخ الفلاني وهو ثقة ولا يصح رد روايته ....

طبائع العمران

جاء مبدأ التفنيد للمرويات على يد العلامة عبدالرحمن بن خلدون (808-732)هـ أبو علم الاجتماع الذي صاغه في مقدمته المشهورة – وهي الجزء الأول من كتابه “كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر”- فوضع معيارا أساسيا لتقبل المرويات وهو موافقتها لطبائع العمران – كما يسميه- فيقول “القانون في تمييز الحق من الباطل في الأخبار بالإمكان والاستحالة أن ننظر في الاجتماع البشري الذي هو العمران ونميز ما يلحقه لذاته وبمقتضى طبعه وما يكون عارضا لا يعتد به وما لا يمكن أن يعرض له، وإذا فعلنا ذلك، كان ذلك لنا قانونا في تمييز الحق من الباطل في الأخبار، والصدق من الكذب بوجه برهان لا مدخل للشك فيه،لأن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني ولا قيس الغائب منها بالشاهد والحاضر بالذاهب فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق وكثيرا ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل من المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثا أو سمينا ولم يعرضوها على أصولها ولا قاسوها بأشباهها ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار فضلوا عن الحق تاهوا في بيداء الوهم والغلط ولا سيما في إحصاء الأعداد من الأموال والعساكر إذا عرضت في الحكايات إذ هي مظنة الكذب ومطية الهذر ولا بد من ردها إلى الأصول وعرضها على القواعد”

تمحيص الخبر أولا

يركز ابن خلدون على تمحيص الخبر أولا قبل الراوي لأن الخبر هو محور الارتكاز الأساسي قي النقل فان سلم الخبر انتقل التمحيص للرواة بما يُعرف بالجرح والتعديل فيقول “ ولا يرجع إلى تعديل الرواة حتى يعلم أن ذلك الخبر في نفسه ممكن أو ممتنع وأما إذا كان مستحيلا فلا فائدة للنظر في التعديل والتجريح”..
ثم يورد ابن خلدون أسباب للكذب في الخبر فيقول “ ولما كان الكذب متطرقاً للخبر بطبيعته وله أسباب تقتضيه، فمنها التشيعات للآراء والمذاهب، فإن النفس إذا كانت على حال الاعتدال في قبول الخبر أعطته حقه من التمحيص والنظر حتى تتبين صدقه من كذبه، وإذا خامرها تشيع لرأي أو نحلة قبلت ما يوافقها من الأخبار لأول وهلة، وكان ذلك الميل والتشيع غطاء على عين بصيرتها عن الانتقاد والتمحيص، فتقع في قبول الكذب ونقله ، ومن الأسباب المقتضية للكذب في الأخبار أيضاً الثقة بالناقلين، وتمحيص ذلك يرجع إلى التعديل والتجريح. ومنها الذهول عن المقاصد، فكثير من الناقلين لا يعرف القصد بما عاين أو سمع، وينقل الخبر على ما في ظنه وتخمينه فيقع في الكذب، ومنها توهم الصدق وهو كثير، وإنما يجيء في الأكثر من جهة الثقة بالناقلين، ومنها الجهل بتطبيق الأحوال على الوقائع لأجل ما يداخلها من التلبيس والتصنع، فينقلها المخبر كما رآها، وهي بالتصنع على غير الحق في نفسه. ومنها تقرب الناس في الأكثر لأصحاب التجلة والمراتب بالثناء والمدح وتحسين الأحوال وإشاعة الذكر بذلك، فتستفيض الأخبار بها على غير حقيقة، فالنفوس مولعة بحب الثناء، والناس متطلعون إلى الدنيا وأسبابها من جاه أو ثروة، وليسوا في الأكثر براغبين في الفضائل ولا متنافسين في أهلها. ولكن أهم تلك الأسباب الجهل بطبائع الأحوال في العمران؛ فإن كل حادث من الحوادث ذاتاً كان أو فعلاً لا بد له من طبيعة تخصه في ذاته وفيما يعرض له من أحواله. فإذا كان السامع عارفاً بطبائع الحوادث والأحوال في الوجود ومقتضياتها أعانه ذلك في تمحيص الخبر على تمييز الصدق على الكذب وهذا أبلغ في التمحيص من كل وجه يعرض وكثيرا ما يعرض للسامعين قبول الأخبار المستحيلة..”

ثم يورد ابن خلدون نماذجا لرويات المؤرخين وتفنيدها لديه فمنها الرواية التي أوردها المسعودي وغيره من أن جيوش موسى عليه السلام قد بلغت ست مائة ألف مقاتل فيرى ابن خلدون إن المبالغة في هذا الرقم واضحة جدا، وان تحديد الجيش بهذا العدد أمر غير معقول، وان القوانين التي يخضع لها تزايد السكان تحكم بعدم إمكان صحته، وذلك أن ما بين موسى ويعقوب عليه السلام هو أربعة آباء، فموسى هو ابن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب وقد كانوا سبعين نفسا وكان مقامهم بمصر إلى أن خرجوا مع موسى عليه السلام إلى التيه مائتين وعشرين سنة تتداولهم ملوك القبط من الفراعنة فيبعد أن يتشعب النسل في أربعة أجيال إلى مثل هذا العدد إلى جانب عدم ملاءمة مساحة الأرض ( مصر والشام) واتساعهما لمثل هذا العدد من الجيوش لأن مثل هذه الجيوش البالغة إلى مثل هذا العدد يبعد أن يقع بينها زحف أو قتال لضيق مساحة الأرض عنها ...
هذا ابن خلدون وهذه ضوابطه لتفنيد الأخبار المروية ونحن اليوم ألسنا في حاجة لمثل هذه الضوابط والقوانين – إن صح التعبير- لتفنيد الأخبار التي ترمينا بها وسائل الإعلام والفضائيات التي غزت كل بيت وكذلك في تفنيد الشائعات التي تمتلئ بها حاراتنا وشوارعنا في ظل ما نحن فيه؟!

***

ملاحظة :
نشرت في صحيفة الجمهورية (اليمنية) بتاريخ 27مايو2011م 

    اضف تعليقاً عبر:

  • blogger
  • disqus
design by : bloggerinarab, powered by : blogger
كافة الحقوق محفوظة لمدونة عيون المعرفة 2014 - 2015