»نشرت فى : الأربعاء، 22 يناير 2014»بواسطة : »ليست هناك تعليقات

فلسفة السياق


 
...لا شيء في الحياة منفصل عما يحيط به ، فكل شيء متأثر بالبيئة المحيطة ويبلغ هذا التأثر مداه في تشكيل هذا الشيء نفسه ..
فالإنسان ابن بيئته لا ينفك عنها تطبعه بطباعها وتلزمه بظروفها أيا كانت هذه الظروف سلبا أو إيجابا .
فلو أن عالما كاينشتاين – مثلا- وُجد في بيئة عربية تخضع لبيروقراطية مملة لا تشجع على البحث العلمي ولا تحتضنه فهل كان من المتوقع ان يقدم مثل تلك الأفكار الثورية التي غيرت مفاهيم الفيزياء الحديثة ؟! أم كان سيظل ذلك الموظف البسيط في مكتب براءة الاختراعات في برن بسويسرا حتى تقاعده ؟!
فالبيئة هنا هي السياق الذي يوضع فيه الإنسان وبدون فهمها لا نحيط علما به..
 
وفي اللغة يلعب السياق الدور الأكبر في صياغة العبارات لان المفردة في المعاجم تحمل دلالات ومعاني متعددة لكن بوضعها في سياق العبارة تجعل المفردة تحمل دلالة محددة ومقصودة لا كل تلك الدلالات مجتمعة ، بل وقد تتعدى ذلك إلى دلالات تخرج عن دلالات المعاجم بما نسميه الدلالات المجازية ولنأخذ مثلا كلمة (ضرب ) فهي في ( ضرب زيد عمرا) بمعنى وكز ، وفي ( ضرب الله مثلا ) بمعنى ذكر ، وفي ( ضرب فلان موعدا) بمعنى حدد ، وفي ( ضرب الحارس الجرس) بمعنى دق ، ونجد المجاز في (فلان ضرب في الارض) بمعنى سعى ، إلى غيرها من المعاني ، فانظر إلى تعددها وكيف ان السياق حدد معانيها.
لذا نجد العالم اللغوي عبد القاهر الجرجاني يؤكد على أهمية السياق فيقول " وجملة الأمر أناّ لا نوجب الفصاحة للفظة مقطوعة مرفوعة من الكلام الذي هي فيه، ولكنّا نوجبها لها موصولة بغيرها، ومعلَّقا معناها بمعنى ما يليها."
وفي التاريخ تحيط بالأحداث التاريخية ظروف تحكمها بما يمكن ان نسميه سياق تلك الأحداث فلا فهم عميق ولا دقيق لها إلا في سياقاتها المتعددة من مكانية وزمانية وديمغرافية وغيرها وإيراد حادثة هكذا دون ملابساتها وظروفها لا يحسم أمر التحقق منها و إدراك دواعيه ومسبباتها لذا نجد العلامة ابن خلدون يجعل من طبائع العمران وما يقتضيه هو القانون في تمييز الحق من الباطل في الأخبار المروية لان الوقائع التاريخية لا تحدث بمحض الصدفة أو بسبب قوى خارجية مجهولة، بل هي نتيجة عوامل كامنة داخل المجتمعات الإنسانية،فعلم التاريخ، وان كان (لا يزيد في ظاهره عن أخبار الأيام والدول) إنما هو (في باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، لذلك فهو أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعد في علومها وخليق). فيرد ابن خلدون بعضا من مرويات التاريخ التي يراه لا توافق للسياق الذي حدثت فيه ومن ذلك ما نقله المسعودي أيضاً في حديث مدينة النحاس وأنها مدينة كل بنائها نحاس بصحراء سجلماسة، ظفر بها موسى بن نصير في غزوته إلى المغرب، وأنها مغلقة الأبواب، وأن الصاعد إليها من أسوارها إذا أشرف على الحائط صفق ورمى بنفسه فلا يرجع آخر الدهر، وكذلك أن جيوش موسى عليه السلام قد بلغت ست مائة ألف مقاتل وكذلك ما روى الطبري والجرجاني والمسعودي من أخبار التبابعة ملوك اليمن وجزيرة العرب أنهم كانوا يغزون من قراهم باليمن إلى أفريقية والبربر من بلاد المغرب وأن أفريقش بن قيس بن صيفي من أعاظم ملوكهم الاول وكان لعهد موسى عليه السلام أو قبله بقليل غزا أفريقية وأثخن في البربر وأنه الذي سماهم بهذا الاسم حين سمع رطانتهم وقال ما هذه البربرة فأخذ هذا الاسم عنه ودعوا به من حينئذ وأنه لما انصرف من المغرب حجز هنالك قبائل من حمير فأقاموا بها واختلطوا بأهلها ومنهم صنهاجة وكتامة...وغيرها من الاخبار .
وفي الفقه تتلون الفتوى التي يصدرها المفتي بالسياق الذي توضع فيه لان الفتوى ما هي الا اجتهاد ذلك المفتي ضمن ما علمه من أصول الفقه وفروعه لكنها - أي الفتوى – بنت الزمان والمكان الذي وجدت فيه وكذلك ليست بمعزل عن المستفتي الذي طلبها فكل تلك المحددات و الظروف يمكن ان نسميها سياق الفتوى الذي قد يغيّر الفتوى نفسها اذا تغيّر واسمع معي ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: (كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاء شاب، فقال: يا رسول الله أُقبِّل وأنا صائم ؟ قال: لا، فجاء شيخ فقال: أُقبِّل وأنا صائم ؟ قال نعم؟ قال: فنظر بعضنا إلى بعض فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد علمت لمَ نظر بعضكم إلى بعض إن الشيخ يملك نفسه ). فقد اختلفت فتواه - صلى الله عليه وسلم - في حكم واحد، وذلك لاختلاف الحالين .
فكيف بعد ذلك يستخرج بعض علمائنا فتاوى مر عليها أكثر من سبعمائة عام لتطبيقها في زماننا المعاصر لأنها للفقيه الفلاني أو العالم الفلاني دون مراعاة لسياق صدور الفتوى الأصلية نفسها ولا لظروف عصرنا ومدى المواءمة بينهما ؟!
أما في التفسير فقريب الشبه من الفقه فرغم القواعد الثابتة في التفسير التي أرساها علماؤنا الأوائل –  رحمهم الله تعالى- إلا أن ثقافة المفسر وذائقته اللغوية وكذلك علوم عصره الذي يعيش فيه كل هذه سياقات تحيط بالتفسير الذي يقدمه ذلك المفسر في عصره لأن عطاءات القران لا تنتهي فهو الخالد إلى يوم القيامة لكن سياقات كل عصر تفرض على المفسر ادراكات وإبداعات جديدة يستخرجها من الكتاب العزيز ويرجع ذلك إلى تعدد الدلالات التي تحملها المفردة القرآنية فتلعب ثقافة العصر (إحدى السياقات) دورا محوريا ليختار المفسر أحد الدلالات المفردة القرآنية دون غيرها، فيظل تجدد تفسير القران في كل عصر معلما بارزا من معالم إعجازه.


***

    اضف تعليقاً عبر:

  • blogger
  • disqus
design by : bloggerinarab, powered by : blogger
كافة الحقوق محفوظة لمدونة عيون المعرفة 2014 - 2015