من حكايات حارتنا 5
حارتنا واحدة من حارات الدنيا الضيقة، التي لا تنتهي حكاياتها ولن تنتهي.
وهنا أدوّن بعضاً من تلكمُ الحكايات.
(1): حكاية (جنازة كبير اللصوص)
أُغلقت أبواب الحارة ذات يوم على غير عادتها، وجاءت أوامر السلطات بفرض حظر تجول في الحارة لعدة أيام!
وقد أثار هذا الأمر استغرابنا، لأنه لم يحدث من قبل في حارتنا، وبالطبع، لم يجرؤ أحد على التساؤل عن السبب!
لكن الأخبار ما لبثت أن تسربت، بأن هذه الإجراءات الطارئة سببها هو جنازة كبير اللصوص!
كبيرهم الذي وافته المنية قبل أيام، وأرادت السلطات خروج جنازته بدون أن تسبب إزعاج لها، وذلك لأنه رحل في سجنه الذي مكث فيه السنوات الأخيرة من عمره.
إذن، لقد تعطلت مصالحنا عدة أيام بسبب كبير اللصوص، مما حدا بجاري للقول: لا رحمك الله يا كبير اللصوص، لا ارتحنا من أذيتك لا حياً ولا ميتاً!
***
(2): حكاية (ج. غ. ش)
لا أدري ما الذي حدا بي لتشبيه البلاد التي زرتها مؤخراً بحارتنا؛ ربما لتشابه المباني وأشكال البيروقراطية التي واجهتها في معاملاتي الكثيرة هناك!
كانت زيارتي الأولى لها، وربما تكون الأخيرة؛ إذ يُدار كل شيء بالمال، كل حركة منك يجب أن تدفع لكي تسير على ما يرام، موظفو المكاتب الحكومية يستقبلونك بابتسامة مصطنعة صفراء، ثم تبدأ التعقيدات والأوامر حول نواقص معاملتك، التي يبدو أنها لا تنتهي، لكن السماسرة لهم دورهم في اختصار الطريق الطويلة بنصائحهم الخاطفة، ورب سمسار في يده مفاتيح لا تتاح لغيره!
المهم، بعد لأيٍ شديد أتممت معاملتي وغادرت تلك البلاد بعون من رب الكون، وأنا أتأمل المظروف الذي حملته معي كختام لمعاملتي الطويلة، كان مطبوعاً عليه عنوان المصلحة الحكومية التي أصدرته، مبتدئة بـ(ج. غ. ش)، وهو اختصار اسم تلك البلاد، التي أقرأها أنا: جمهورية الغش وشاكلته!
***
(3): حكاية (مسؤول الغفلة)
كلنا نعرف عريس الغفلة، لكن مسؤول الغفلة، هذا أمر جديد من موضات هذا الزمن الأخير!
إنه واحد من حارتنا، أراد أن يكون مسؤولاً كيفما كان؛ فاشترى المنصب بدراهمه عداً ونقداً.
غير أن الغريب في الأمر أن هذا المنصب ليس مغرٍ للتهافت عليه؛ فلا هو مكانة مجتمعية بارزة ستجعل صاحبها في أعلى عليين، ولا هو جهة إيرادية يظن الواحد أن هذا المسؤول سيجني من ورائه الشهد، كلما في الموضوع أن صاحبنا يريد أن يتأمّر على الناس، وقد قالت العرب قديماً: ما أجمل الإمارة ولو على الحجارة!
ومن هنا بدأت العجائب؛ فقد أخرج هذا المسؤول على موظفيه، كل عُقده النفسية التي، يبدو، قد ألمّت به في طفولته البائسة؛ فهو كل يوم في شد وجذب ومهاترات وأوامر توقيف وإنذارات و... إلى آخر كل الإجراءات الإدارية التي يحفل بها نظام الحارة البيروقراطي!
ولله في خلقه شؤون..
***
(4): حكاية (الثور في الساقية)
في هذه الأيام النَحِسات التي تمر بها الحارة، صارت حياتنا رتيبة للغاية، تبدأ من حيث تنتهي، لتبدأ مرة أخرى، وهكذا دواليك، والعمر ينقضي والآمال تلوح ضباباً في أفق الناظر، هذا لمَنْ ظلت لديه آمال يتطلع إلى تحقيقها!
ذات يوم مررتُ بمزرعة من مزارع الحارة، وهناك وجدت ثوراً معصوب العينين مقيداً إلى جذع، يدور في ساقية المزرعة، دوراناً لا نهاية له.
قلتُ لنفسي: ما أشبه حالتنا بهذا الثور الذي يدور في ساقيته وهو مغمض العينين!
بيد أنّ هذا الحيوان المسكين مجبرٌ على هذا العمل الرتيب، فما بالنا نحن سكان هذه الحارة المنسية رُبطنا في مسارٍ حياتيٍ رتيب، يقوم بملء ساقيةٍ لا تعود علينا بشيء؟
هل رُبطنا بهذه الساقية؟ أم نحن مَنْ ربطنا أنفسنا بها عن رضاً؟
أظن أن الإجابتين صحيحتان معاً!
رُبطنا، بحكم بيروقراطية الحياة العربية المقيتة، التي يتمسك بها الإداريون المحنّطون، وكأنها تعاليم مقدسة لا يجوز الميل عنها قيد أنملة!
وربطنا أنفسنا تحت أعذار واهية، غذّتها طبيعتنا المتكاسلة وهممنا الفاترة، فمرّ العمر ونحن قابعون نجري وراء الأماني!
***
وتستمر الحكايات..










اضف تعليقاً عبر:
إرسال تعليق